أرعبت فكرة الحرب بسبب أوكرانيا الأوروبيين والأميركيين على حد سواء، فعقدت لها مجلة «شبيجل» الألمانية ملفاً بحث في احتمالاتها الممكنة، واستبعدها طبعاً! والحرب في أوروبا مرعبة بالفعل. فقد حدثت عشرات المرات في القرن التاسع عشر، وشملت 15 أو 20 بلداً أوروبياً في كل مرة. أما في القرن العشرين فإن الحرب في أوروبا صارت حربين عالميتين، شملتا أوروبا كلها، ومستعمراتها في العالم، وبالطبع الولايات المتحدة وروسيا! وللألمان سبب للرعب والإرعاب، فهم كانوا سبب الحرب في المرتين: في المرة الأولى تحزبوا للنمسا، وفي الثانية أرادوا إيجاد مجال حيوي في قلب القارة، ما دام الآخرون قد منعوهم من استلحاق مستعمرات إذ احتلوا العالم كله. ولدى ألمانيا سببان إضافيان لرفض الحرب: فهي التي تتحمل الأعباء المالية بالدرجة الأولى في أزمة أوكرانيا. وهي لا تستطيع الاستغناء عن روسيا العدوانية لجهتين: لجهة وارداتها من البترول والغاز الروسيين، ولجهة آلاف الشركات الألمانية في روسيا والحجم الهائل للاستثمارات الألمانية هناك. وقد اعتقد الجميع خلال السنوات الماضية أن المستشارة الألمانية ميركل هي الوحيدة التي «تمون» على بوتين. لكنها جرّبت سحرها مراراً في الأسابيع الماضية فلم ينفع مع «الولد العاق». والواقع أنه لا الألمان ولا الفرنسيون مستعدون للمضي في النزاع مع روسيا إلى النهاية. لأن الطرفين بينهما وبين روسيا اعتماد متبادَل. بل إن فرنسا اختارت أن تنفذ الآن عقداً عسكرياً على سفينة حربية مع روسيا. وقد أزعج ذلك الأميركيين، وجاء كيري لإقناع فرنسا بالتأخير. وقد لا ينجح في ذلك. وهكذا فالفرنسيون والألمان والأميركيون، جميعاً يعرفون الحدود التي لا يستطيعون تجاوزها في النزاع. ووحدها بريطانيا لم تتردد في التصعيد، لأن تجارتها مع روسيا ليست ضخمة، ولأن عندها بترولا في بحر الشمال، ولأنها اعتادت على تولي المهام بالنيابة عن الولايات المتحدة. فقبل أيام صرح بلير، رئيس وزرائها الأسبق، أنه لابد من استعادة الشرق الأوسط، وقد بدأت أميركا المهمة، وعلى بريطانيا أن تكملها. وعندما قرأتُ كلامه قلت: أبشِر بطول سلامة يا مربعُ! الولايات المتحدة كريمة، لذلك أعطت إيران نصف الشرق الأوسط، إنما إذا جاء البريطانيون، فإنهم معتادون على إعطاء إسرائيل فقط، ونسأل الله الستر! ولنعد إلى أوكرانيا وروسيا وأوروبا. الألمان مستعدون أكثر من غيرهم لتفهم أسباب روسيا الاستراتيجية. فالقرم روسية بالفعل. لكنهم كانوا يفضّلون أن تفعل روسيا ذلك بالتدريج. أما شرق أوكرانيا فلا شأن لروسيا به، وإذا شاء الروس الذين توطنوا هناك، فهم يستطيعون العودة إلى روسيا و«يا دار ما دخلك شر». أما أن يعمد كل روسي من الشرق إلى الغرب إلى أخذ المدينة التي يسكنها فإنه توسعٌ منقطع النظير في فهم مبدأ الأميركي ويلسون: «حق تقرير المصير»! ومنذ مدة يحاول الألمان إقناع بوتين بالتخلي عن مزاعم الهوية والقومية والعزة الوطنية، والدخول في شراكة للتطوير الكبير. فليس خافياً أن روسيا متأخرة بمعايير التصدير. فهي لا تصدر غير البترول والغاز والسلاح. ويمكن لها خلال 15 عاماً، بمساعدة ألمانيا، أن تُهيمن على وسط أوروبا وغربها (مثل الصين) بالكرم التنموي، وبلعبة الأخ الأكبر، وليس قاطع الطريق. وقد اعتاد بوتين على الاستماع والسير لفترة بحسب ما تنصح به ميركل. لكنه عند أول تحدٍ ينسى كل ما وعد به ويقفز إلى العربة الحربية. والحرب عدو التجارة، وعدو التنمية في أوروبا بالذات. وليست هذه المرة الأولى التي يشذّ فيها بوتين عن الخط الذي رسمته ميركل. فقد فعل ما هو أسوأ في جورجيا، ومثّل ذلك عقبة في تقدم العلاقات مع الغرب لخمس سنوات. وجورجيا وأبخازيا والمقاطعات الأخرى عبء على روسيا، إن لم تتحول إلى مناطق نجاح وتطوير. وبعكس المتداوَل فإن هناك أقاليم صغيرة كثيرة مثل أبخازيا تفضل العودة إلى روسيا بسبب الميزات التي كانت لها عندما كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي. لكن بوتين لا يضيع وقته. ومشكلة أوكرانيا ليست مولدوفيا ولا جورجيا ولا أبخازيا. فهي تعد (بعد ذهاب الروس جميعاً) 45 مليون نسمة، وهذا يعني أنه لا يمكن ابتلاعها. وحتى لو انفصلت مُدُن الشرق (مدينتان أو ثلاث) تظل أوكرانيا دولة كبرى، وقومية كبرى. فمع أن أكثر من ثلث سكانها من الأرثوذكس؛ فإن البطريرك الأرثوذكسي تغلبت قوميته على لونه الديني، وهاجم بوتين، وبطريرك موسكو، واتهمهما بالاستعمار. وهذا يعني أن الوطنية الأوكرانية قوية وقد بدأت تقوى، لكنه لا يعني أن أوكرانيا قادرة على مقاومة روسيا. بيد أن الأخيرة تحتاج إلى أكثر من مائتي ألف عسكري لاحتلال أوكرانيا. ويهدد بوتين الآن بقطع الغاز والبترول عنها بعد أن رفع السعر. لكن أوكرانيا لن تدفع حتى لو قطع البترول والغاز، وسيتقدم الألمان لتخفيض التوتر، ودفع بعض المبالغ هم والأميركيون. هل يخشى الأوروبيون الحرب (التقليدية) بالفعل؟ الأميركيون كانوا بعيدي النظر عندما أبقوا على حلف الأطلسي بعد انهيار حلف وارسو وسقوط الاتحاد السوفييتي. وكان الأوروبيون متذمرين ويريدون في السر إلغاء «الناتو»، لأنهم يدفعون ثلثي النفقات، والأميركيون الثلث. وقتها قال لهم الأميركيون: أقطار يوغوسلافيا السابقة لن تهدأ، وروسيا الاتحادية لن تظلّ متعبة وصارخة. سيعود الصرب أقوياء، وكذلك الروس، وكل منهما سيطمع باستعادة بعض الأقاليم التي كان يسيطر عليها سابقاً. لذلك فلنُبق على الأطلسي لعقد أو عقدين فننظر كيف تتطور الأمور. والذي حصل أن الأميركيين ما استطاعوا الوصول إلى قلب بوتين، بينما اعتقدت ميركل أنها وصلت. لكنها قالت مرة: إنه صديق صعب بالفعل. إذ هو قليلا ما يعد، وإذا وعد لا يُخلفُ وعده، لكنه ينتظر طويلا للتنفيذ. ويعتقد الفرنسيون أن الخطأ الأميركي البريطاني مع بشار الأسد، هو الذي جرّأ بوتين على تسريع عملية القرم، قبل فوات الوقت. فقد استنتج بوتين أن أميركا ذات الأنياب لا تعض أيام أوباما، لذلك فلنسارع للحسم في القرم. لكنه مهتمٌ بالتحدث إلى أوباما ولو من خلال ألمانيا. فهو لا يريد أن يُساءَ فهمه ويُعتبر مجدداً للحرب الباردة. فحتى روسيا لا تستطيع احتمال ذلك، ولا تحتمل العلاقات التجارية توتراً عسكرياً. لكن القتل والفوضى مزعجان أيضاً. وقد حصلا في البوسنة وكوسوفو، إنما لا ينبغي أن يحصلا في أوكرانيا المسيحية الضخمة، ولا أحد يحتمل الفوضى العارمة التي يمكن أن تندلع. لذلك يراهن الجميع على الحل. لكنهم ينتظرون الحل الألماني. وقد اعتاد الفرنسيون عندما يأتي إليهم الألمان، أن يذهب شتاينماير، بعد باريس، إلى روسيا للتوسط. لن تحصل الحرب على أوكرانيا. لكن روسيا فقدتها بالتسرع. وهذا خطأٌ كبير. وليس من الإنصاف الزعم بأن الحرب في آسيا أقل ضرراً منها. لكن بوتين تصرف ليس كما توقعت ميركل، التي تعتبر أن حرباً واحدةً في أوروبا أفظع من عشرة حروبٍ خارجها!