استُقبل كتاب «بوتين.. المسار السري» للكاتب الروسي، ذي الأصل الأوكراني، فلاديمير فيدوروفسكي، الذي صدر خلال الأيام الماضية في فرنسا، بكثير من الاهتمام، وذلك بحكم تزامن وقت صدوره مع دخول الأزمة الأوكرانية في مرحلة غير مسبوقة من التعقيد والتصعيد، وأيضاً لعمق معرفة ومعايشة كاتبه لأدق تفاصيل المشهدين الروسي والأوكراني، والخلفيات التي أدت إلى اصطدام هذين المشهدين الآن فيما يشبه المعادلة الصفرية، وعلى نحو هدد، وما زال يهدد مستقبل وحدة الدولة الأوكرانية نفسها. وفي قلب هذا الاصطدام يقع رجل قوي يحرك معظم خيوط اللعبة من وجهة نظر الكاتب، وهو البطل الأهم في القصة الخبرية للأزمة الروسية- الأوكرانية الراهنة، ولذا فإن تتبع مسارات حياة هذا الرجل وتوجهاته الشخصية، يفيد كثيراً في تفكيك بعض جوانب الغموض فيما جرى خلال السنوات الأخيرة في موسكو وكييف معاً. وهذا الرجل، بطل الأزمة، هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يتتبع سيرته الكاتب، تتبعاً استقصائياً، مع عدم إخفائه، منذ البداية موقفه الناقد من سيد الكرملين القوي، ولذلك جاء العمل بهذا المعنى سيرة نقدية، غير ذاتية. وبين دفتي الكتاب الواقع في 226 صفحة يستعرض الكاتب مختلف المواقف والمواقع الكاشفة، والمحطات المهمة، في سيرة بوتين ومسيرته، مؤكداً أن «قيصر» روسيا الجديد يعتبر رجلاً بارعاً للغاية في فن خلط الأوراق، وتشبيك أكثر المسارات تباعداً، بل إنه، يقول الكاتب، وفيٌّ لأساليبه القديمة عندما كان يشتغل في أجهزة الخدمة السرية، حيث يستطيع توليد وتقديم انطباع بعيد للغاية عن الواقع، وتمثيل أدوار مختلفة بحسب ما يكون عليه الحال، بغية تحقيق أهدافه. وهو في هذا إنما يطبق في السياسة الأساليب المنهجية لمدرسة «الكي جي بي»، حين يتعمد الإيحاء والإيهام للمحاورين بأنه نسخة طبق الأصل عنهم وعن توجهاتهم، بل إنه منهم، ووجهه كالمرآة يرى فيه كل واحد منهم نفسه وقسماته وميوله ومزاجه وقناعاته الشخصية. بل إنه لا يتردد أحياناً في تقليد وتمثيل الإيماءات والإيحاءات والإشارات، لخلق نوع من التقمص الوجداني والتعاطف الرمزي. ولكن على رغم هذه القدرة على الإيهام وتوليد التخاطر السياسي، إن صح التعبير، لدى المحاورين، إلا أن ثمة أيضاً في الحقيقة أكثر من خمسة بوتينات مختلفة يحاول المؤلف تسجيل صورة «بورتريه» عنها: - الأول هو بوتين خلال الفترة 1970- 1980 حيث كان في شخصيته ودوره نوعٌ من ملامح «جيمس بوند»، حيث تم تكوينه وتدريبه من قبل أجهزة الاستخبارات السوفييتية لهذا الغرض، وقد اشتغل أولاً في مجال مكافحة التجسس، قبل أن يتم نقله للعمل في الخارج. وطيلة هذه الفترة كان بوتين نموذجاً لرجل «الكي جي بي» المحترف في سلوكه وطريقة تفكيره. - والثاني بوتين كمدير تنفيذي ورجل تسيير وتدبير إداري، حين كان نائباً للعمدة المنتخب لمدينة سان بطرسبورج. - والثالث بوتين الموظف السامي، حيث عمل مديراً لأجهزة الاستخبارات وبدأ قصة توثيق علاقته مع يلتسين، ودفاعه عن مصالح هذا الأخير وعائلته. - والرابع بوتين رئيس وزراء الحرب في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي، حين خاض صراعاً مريراً في الشيشان. وقد مثل وصوله إلى السلطة وموقع اتخاذ القرار الفعلي في شهر أغسطس 1999 إشارة دالة على بداية- نهاية عهد يلتسين، وقد استفاد من الحرب الصعبة التي خاضها في الشيشان، إضافة إلى حنكته في اللعب على حبال وتناقضات محاور وتحالفات النظام الروسي من الداخل، ليفرض نفسه في النهاية حين تولى السلطة بعد بوتين، مع نهاية شهر ديسمبر 1999. - وأخيراً بوتين الخامس، سيد الكرملين، الذي يعنينا اليوم، وقد صار في دائرة الضوء العالمية، من خلال عمله المتواصل على فرض إرادة روسيا ورؤاها على الغرب، وخاصة على دول محيطها القريب. وأيضاً الزعيم الحالم باستعادة دور وحضور بلاده كقوة كبرى على المسرح الدولي، والذي دخل الآن في مرحلة تحدٍّ مفتوحة مع الغرب، وخاصة بعد تفاقم الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم، واستمرار الصراع بين أنصار روسيا وحكومة كييف في مناطق واسعة أخرى من شرق وجنوب شرق أوكرانيا. هذا فضلاً عن دوره في أزمات دولية أخرى كالأزمة السورية، ومفاوضات النووي الإيراني، وغيرهما. وفي الأخير يقدم هذا الكتاب القائم، على بحث استقصائي حول شخصية بوتين وسيرته الذاتية والسياسية، مداخل ومفاتيح لفهم دوافع تفكير وتسيير الرئيس الروسي لسياسات موسكو في الداخل والخارج، دون إغفال الخلفيات وبعض المظالم التاريخية من وجهة نظره التي تعرضت لها روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، واستمرار ثقافة الشيطنة والخوف من الروس «الروسوفوبيا» في أوروبا، وسعي القيصر الجديد لاحتواء كل ذلك، من خلال رفع قفاز التحدي والتعبير عنه بلغة القوة الخشنة. حسن ولد المختار الكتاب: بوتين.. المسار السري المؤلف: لاديمير فيدوروفسكي الناشر: روشيه تاريخ النشر: 2014