يبدو أن هناك ما يشبه التنافس أو السباق بين التنظيمات والجماعات المتأسلمة، على تشويه صورة الدين الإسلامي الحنيف، حتى أكاد أجزم بأن أعداء الإسلام لو أنفقوا مليارات الدولارات في حملات مسيئة للإسلام، فلن يحققوا النتائج ذاتها التي حققتها - ولا تزال - هذه الجماعات التي تفكر وتعيش خارج سياقات الزمن والتاريخ! ففي فبراير عام 2001، فوجئ العالم بقرار حركة «طالبان» الأفغانية هدم تمثالي بوذا في باميان، وهما اللذان يعود تاريخهما إلى القرن السادس قبل الميلاد، عندما كانت منطقة باميان الأفغانية مركز تجارة، وقامت عناصر الحركة بالفعل بتدمير التمثالين باستخدام الديناميت في شهر مارس من العام ذاته، وأعلنت أن التمثالين قد دمرا كلياً تقريباً، وخرج «عبدالحي مطمئن»، الناطق باسم حركة «طالبان» وقتذاك؛ ليبشر العالم بأن تدمير تمثالي بوذا «يقترب من نهايته»، وكأنه يعلن الاقتراب من إنجاز علمي أو اكتشاف تاريخي يغير ملامح الحياة البشرية! كانت حجة «طالبان» في تدمير هذه التماثيل التاريخية، خصوصاً التماثيل البوذية، أنها تستهدف تفادي العودة إلى «عبادة الأصنام» التي كانت سائدة قبل الإسلام، ولأن «الاحتفاظ بمثل هذه التماثيل مخالف للشريعة»، بحسب البيان الصادر آنذاك عن الملا عمر زعيم حركة «طالبان»، وكأن «طالبان» كانت قد انتهت من حل كل معضلات الحياة في أفغانستان، ولم يتبقَّ أمامها إلا التفكير في المستقبل وإيجاد حلول لمشكلات عقائدية محتملة قد تواجه سكان البلاد! والأغرب من ذلك، أن الحركة قد رفضت اقتراحات عدة لحل الأزمة، منها عروض مالية سخية من متاحف عالمية لشراء التماثيل، على حين كان الشعب الأفغاني يعاني تبعات الفقر والبؤس، بل إن الحركة ذاتها التي تدعي التصرف باسم الإسلام، قد قننت زراعة الأفيون واعتمدت عليها دخلاً للحركة؛ حيث تشير الإحصاءات إلى أن أفغانستان كانت تنتج عام 1996 نحو 2250 طناً من الأفيون، وارتفع هذا المعدل إلى 2800 طن عام 1997، ثم قفز إلى 4580 عام 1999؛ حيث كانت «طالبان» تسيطر وقتذاك على معظم مناطق أفغانستان؛ لتحقق انتعاشاً هائلاً في هذه التجارة. وبرغم الصدمة الثقافية التي أصابت العالم أجمع؛ جراء هذا السلوك المستهجن من جانب حركة «طالبان»، فقد جاءت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بعدها بأشهر معدودات؛ لترسخ حقيقة وجود هذا الفكر الهمجي الذي يتخذ من الإسلام ستاراً لتنفيذ جرائمه الإرهابية الشنيعة، التي لا تمت لهذا الدين بصلة، بل تسيء له إساءة بالغة، ربما تصعب معالجة آثارها على مر عقود طويلة. وبطبيعة الحال، لم يتوقف مسلسل الإساءة للإسلام من جانب التنظيمات والجماعات المتأسلمة المنتشرة في كثير من دول العالمين العربي والإسلامي؛ حيث جرت في الفترة الأخيرة حوادث بشعة في سوريا على يد تنظيم «داعش» الذي يرتكب جرائم يومية في بلاد الشام التي اشتهرت على مدار تاريخها بالحضارة والتسامح، في محاولة متعمدة لتشويه هذا التاريخ. وأحدث حلقات هذا المسلسل البشع من الإساءات المتكررة للإسلام في مختلف مناطق العالم، يتمثل بما فعلته جماعة «بوكو حرام» النيجيرية التي خرجت على العالم معلنة مسؤوليتها عن اختطاف أكثر من مائتي فتاة تتراوح أعمارهن ما بين 12 و15 عاماً، وأعلنت أن الجماعة ستعتبرهن «سبايا»، وتباهى زعيم الجماعة «أبوبكر شيكاو»، بأن مقاتليه شنوا هجوماً في 14 أبريل خطفوا خلاله أكثر من 200 فتاة، وهدد في شريط فيديو ببيعهن وتزويجهن بالقوة. وقال «شيكاو» «خطفتُ الفتيات، وسأبيعهن في السوق وفق شرع الله»! وقال إن خطف الفتيات أثار الغضب «لأننا نحتجز أشخاصاً كعبيد»، مضيفاً أنه خطف الفتيات لأن «التربية الغربية يجب أن تتوقف، وأن على الفتيات ترك المدرسة والزواج»، وتصريحاته هذه تعني بكل وضوح، أنه يدرك حقيقة الجريمة، وأنه يجهل تماماً جوهر الدين الإسلامي وتعاليمه السمحة. جماعة «بوكو حرام» النيجيرية لا تدرك؛ مثل: «طالبان» و«داعش» و«القاعدة» وغيرها من التنظيمات الإرهابية، عواقب تصرفاتها، وتكشف عملياتها الإجرامية عن جهل عميق بتعاليم الدين الإسلامي، وهي التي تزعم أنها تسعى لتطبيقها في نيجيريا، ولا غرابة في ذلك، فهذه الحركة تتكون في بنيتها البشرية من طلبة غادروا مقاعد الدراسة؛ بسبب رفضهم المناهج التربوية الغربية، وتقترب في ذلك بشكل كبير في تكوينها الفكري والعقائدي من حركة «طالبان» الأفغانية، ولذا يطلق عليها بعض المراقبين «طالبان نيجيريا». ولو كانت مثل هذه الجماعات قد قرأت عن الإسلام، ولو قليلاً، فضلاً عن تعلمه والإيمان به، لما فعلت ما تفعله باسم الإسلام، ولما مارست السطو المسلح والسرقة والنهب والاستيلاء على ممتلكات الغير من الفقراء والمحتاجين؛ بزعم انتمائهم إلى دين آخر، ولما سمحت لنفسها بأن تكون مصدر رعب وقلق لمئات الآلاف من سكان القرى النيجيرية القريبة من مناطق تمركز الحركة. فما هكذا انتشر الإسلام، ولما نشأت الدول الإسلامية في القرون الأولى من التاريخ الإسلامي أيها المفلسون، ولن تجلب جرائمكم للإسلام إلا المزيد من التراجع والإساءات. «بوكو حرام» ذاتها، جماعة تستحق الدراسة والبحث ابتداء من مسماها الذي يعني لغوياً - وفقاً للغة الهوسا - «التعليم الغربي حرام»، ومثلها تماماً تفكر جميع التنظيمات الإرهابية المتطرفة، فكل منها يتبع الأخرى، وهي في مجملها تستمد هذا الفكر المتخلف من منابع واحدة. وهذا الفكر يطرح للنقاش العقبة الأساسية التي تحول دون تقدم الكثير من مناطق العالمين العربي والإسلامي، وهي تأطير العلاقة بين الإسلام والحداثة؛ أي العلاقة المطروحة للنقاش على مائدة البحث منذ قرون عدة، مضت - ولا تزال - تبحث عن مخرج، نأمل أن يكون قريباً لأن استمرار الجدل فيها وحولها يغرق الكثير من دول العالمين العربي والإسلامي، في مزيد من وحل الجهالة ويجعلها فريسة سهلة لهذا الفكر المتطرف الذي بات ينتشر ويتمدد بسرعة واضحة في السنوات الأخيرة. لقد حاول كثير من المفكرين عبر التاريخ الإسلامي؛ ومنهم: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي ورشيد رضا وغيرهم، إيجاد علاقة تعايش بين الإسلام والتطور التاريخي، عبر تجديد الفكر الإسلامي لا تجديد الدين، فديننا الحنيف صالح لكل زمان ومكان، ولكن نتائج هذه الجهود المتراكمة، والمتواصلة حتى الآن، لم تحقق المرجو منها، ويبدو أنها بحاجة إلى مزيد من التكثيف على الأقل؛ لمواجهة والتصدي لموجات الجهالة والتغييب المتزايدة في الوقت الراهن. ومن الصعب الاستسلام لفكر متشدد يقضي بإبقاء الفكر الإسلامي جامداً بما يشوه الدين ذاته ويرسم له صورة نمطية مغلوطة قائمة على أنه لا يصلح للعصر الراهن، وكذلك ما يليه من عصور. ومن هنا، فإن المسؤولية تقع علينا جميعاً، كمسلمين، ثم من باب أولى على المؤسسات الدينية الوسطية للبحث عن حلول ومخارج من هذا المأزق التاريخي، وإنقاذ العالمين العربي والإسلامي من تنظيمات وجماعات لا ترى من الدين إلا «السبايا» وقتل من تعتبرهم هذه الجماعات كفاراً، ولا ترى في الشريعة الإسلامية السمحاء إلا الجلد والرجم وغيرهما من حدود بحاجة إلى فهم عميق واستيعاب وعلم، واجتهاد لا تتوافر شروطه ومقتضياته لدى هذه التنظيمات.