أحسست بانزعاج شديد الأسبوع الماضي عندما شعر وزير الخارجية الأميركي جون كيري، رداً على انتقادات زملائه السابقين في مجلس الشيوخ، بأنه مضطر للتراجع عن تحذيره من أن إسرائيل تخاطر بأن تصبح «دولة عنصرية» إذا ما أخفقت في صنع السلام مع الفلسطينيين. ولكن أكثر شيء أصابني بالضجر هو أن كيري، بعد إقراره بأن كثيراً من الإسرائيليين قدموا التحذير ذاته، اعتذر عن استخدام كلمة «عنصرية»، موضحاً أن «هذه الكلمة من الأفضل أن تترك للنقاش في الداخل»، ومعنى هذا بعبارة أخرى أنه يمكن للإسرائيليين أن يخوضوا في هذا الجدال، ولكن لا يمكننا نحن فعل ذلك! وقد ذكرني هذا الأمر بتعليق سمعته من عضو مجلس الشيوخ السابق جوزيف ليبرمان في عام 2000، الذي أقرّ فيه بأن مناقشة قضايا مثل المستوطنات والقدس في الكنيست الإسرائيلي تكون أسهل من مناقشتها في مجلس الشيوخ الأميركي. والسؤال المطروح الآن: كيف يمكن أن تقود الولايات المتحدة عملية صنع السلام الإسرائيلي الفلسطيني بينما لا يمكنها انتقاد إسرائيل أو حتى إجراء نقاش صادق بشأن سياساتها؟ وعلى مدار أكثر من عقدين الآن، منحت الولايات المتحدة نفسها دوراً أحادي الجانب في عملية صنع السلام الإسرائيلي الفلسطيني، وطوال هذه الفترة خضعت قيادتنا لاختبارات، وكثيراً أيضاً ما أخفقنا. وقد أفضى عجزنا عن السعي لإحلال السلام، بصورة مستقلة عن الاعتبارات السياسية الداخلية، إلى نتائج مأساوية، ليس أقلها فقط أننا قد أخفقنا في المساعدة على حل الصراع، ولكننا أيضاً أسهمنا في تدهور البيئة السياسية في كل من المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني، والإضرار بصورة دولتنا في كثير من دول العالم. وحتى عندما حاول رؤساء أميركيون إحداث نقلة، مثلما فعل كثيرون منذ الرئيس «فورد»، تعرضوا للتوبيخ من قبل أعضاء الكونجرس الذين طالما ركزوا على المواقف السياسية قصيرة الأجل بدلاً من حماية مصالح الولايات المتحدة على المدى الطويل، وفي سعيهم إلى ذلك، قدموا تنازلات كثيرة فيما يتعلق بالتزام دولتنا المعلن تجاه حقوق الإنسان العالمية والديمقراطية. وفي أعين كثيرين في أنحاء العالم، يبدو أننا لا نرى إلا ما نريد أن نراه، وننكر ما نجد من الصعب الاعتراف به. وعلى مدار عقود، تغافلنا عن الوقائع اليومية التي تواجه الفلسطينيين الذين يعيشون تحت احتلال وحشي وقمعي، وحتى عندما اعترفنا بهذه الانتهاكات لحقوق الإنسان، أخفقنا أيضاً في الكشف عن الحل اللازم لتحدي السلوكيات الإسرائيلية. ولا تكمن المشكلة في مجرد ضعفنا وعجزنا عن انتقاد إسرائيل علانية، وإنما يبدو وكأننا لا نستطيع أن نحمل أنفسنا على أن نرى الفلسطينيين بشراً كاملين ومتساويين مع غيرهم وندافع عنهم ونقف إلى جانبهم عندما تنتهك حقوقهم انتهاكاً صارخاً. وفي حين نشجب المستوطنات عندما يتم الإعلان عنها، إلا أننا نعتبرها «واقعاً» عندما يتم بناؤها، ولكن في الصراعات الأخرى في أنحاء العالم، ندافع عن المدنيين الأبرياء الذين يقعون ضحايا لعقوبات جماعية، وندافع عن أولئك الذين يتم سجنهم بلا اتهام أو يتم طردهم من ديارهم من دون أي وجه حق، ونندد بـ«التطهير العرقي» وأية انتهاكات أخرى لقانون حقوق الإنسان الدولي، ونصر على أن من حق اللاجئين العودة إلى أوطانهم واستعادة ممتلكاتهم. ولكننا لا نقبل الحقوق ذاتها للفلسطينيين، وقد وضعنا إسرائيل فوق القانون، وجعلناها استثناء لكافة القواعد، وتعاملنا كما لو أن الفلسطينيين ليست لهم حقوق على الإطلاق. وتلك الدول التي تشعر بالغضب من ازدواجية معاييرنا تجاه إسرائيل ترفض سياستنا، معربة عن حزنها ولسان حالها يقول: «حسناً.. هذه هي طريقة الولايات المتحدة». وتبدو نتائج هذا الخلل الشديد في تعاملنا مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني واضحة جلية في كل مكان، فقد أصبح المجتمعان الإسرائيلي والفلسطيني مدفوعين بأمراض إما أننا شجعناها أو دعمناها بسياساتنا، فالإسرائيليون يتصرفون مثل أطفال مدللين، والفلسطينيون يتعاملون باعتبارهم معتدى عليهم. ولعل الإنصات إلى النقاش داخل إسرائيل يبدو مفيداً ومثيراً للإحباط في الوقت ذاته، وبالطبع، هناك إسرائيليون يواصلون الدفاع عن منح حقوق الإنسان للفلسطينيين، ولكنهم ليسوا أصحاب الكلمة العليا، إذ إن الاتجاه المهيمن في الائتلاف الحكومي الحاكم هو رفض أي اعتراف بحقوق الفلسطينيين، وأي قبول حتى بانسحاب ضئيل من الأراضي المحتلة. والإسرائيليون لا يختلفون عن الأطفال المدللين، حيث أدركوا حقيقة أنه لن تكون هناك عقوبات على سلوكياتهم الخاطئة، ودائماً يساندهم الكونجرس ويمنحهم ما يريدون. وفي هذه الأثناء تولدت لدى الفلسطينيين فكرة أن أي شيء يفعلونه لن يكون كافياً لكسب التأييد الأميركي، وبالنسبة لهم، ما من مكافأة على سلوكياتهم الجيدة، ولأن الكونجرس لم يقف يوماً في صفهم، بات القادة الفلسطينيون المعتدلون يشعرون بالحرج والخطر، بينما قويت شوكة المتعصبين كي يظهروا غضبهم وخيبة أملهم، وفي بعض الأحيان بأساليب سلبية للغاية. وعلى مدار عقود، حذر القادة العسكريون في الولايات المتحدة من أن إخفاقنا في الضغط من أجل التوصل إلى سلام عادل يسبب أضراراً جسيمة على مركزنا وقدرتنا على العمل مع الحلفاء العرب لحماية مصالحنا. ومع وصول عملية السلام إلى طريق مسدود، على الولايات المتحدة أن تختار، وبدلاً من مجرد الدفع من أجل تمديد المفاوضات، فقد آن الأوان كي تقرر أن بمقدورها إخبار الإسرائيليين بالحقيقة حول سلوكياتهم وتبعاتها، وربما أن الكونجرس سيعترض وأن بعض السياسيين سيمتعضون، ولكن إذا كنا جادين بشأن السلام، يجب أن نفسح الطريق أمام قيادتنا الحاسمة. ولن يجدي تدليل اليمين الإسرائيلي سوى في تعزيز سطوته، فهم يعرفون كيف ينتهزون فرصة الانفتاح ويراهنون على تضييع الوقت، ولذا فإن الضغط الحازم من الولايات المتحدة سيعزز حتماً الإسرائيليين التقدميين الذين يدركون الهوة العميقة التي حفرها قادتهم المتغطرسون. ولابد من دعم الإسرائيليين التقدميين في جهودهم الرامية إلى التغيير، وبالطبع سيساعد التحدي القوي من الولايات المتحدة في إثارة الجدل والتغيير المطلوب داخل إسرائيل نفسها.