عدتُ للتو من أبوظبي بعد أن حضرتُ حفل توزيع جائزة الشيخ زايد للكتاب في دورته الثامنة. وقد تميزت هذه الدورة بحضور صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز وزير الحرس الوطني في المملكة العربية السعودية كي يتسلم نيابة عن والده خادم الحرمين الشريفين جائزة شخصية العام التي مُنحتْ في هذه الدورة لجلالته تقديراً لسياساته الحكيمة محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، واعترافاً بجهوده في التنمية والبناء ونشر العلم وقيم التسامح والمحبة والحوار. ما يميز دورات توزيع جائزة الشيخ زايد للكتاب أنها تنعقد بالتزامن مع افتتاح معرض أبوظبي للكتاب، الأمر الذي يجعل أبوظبي تعيش عرسين ثقافيين في آن واحد. والحقيقة أن معرض أبوظبي للكتاب في هذه الدورة، وهي الدورة الرابعة والعشرين له كسر مقولة «نحن أمة لا تقرأ» التي ظلت طويلاً تطارد العرب وتوصمهم. ذلك أن المعرض شهد الكثير من المظاهر والمبادرات والفعاليات والبرامج والمشاريع التي تشجع في مجملها على القراءة واقتناء الكتاب بهدف خلق جيل قارئ على غرار التجربة اليابانية. وحول تجربة اليابان الاستثنائية المضيئة التي تهدف إلى تشجيع القراءة في أي مكان وزمان، والتي حبذا لو استرشدنا بها في بلداننا وجعلنا منها بوصلة لعملنا في المستقبل قال عنها أحد الكتاب الإماراتيين: «هي في الواقع تجربة قيادة أولاً، وتجربة مؤسسات ثانياً، وتجربة مجتمع وأسرة تستلهم من قيادتها وثقافتها وجذورها وموروثها مكونات هويتها». ذلك أنه «مع الكتاب النظيف، والقارئ النظيف، والمؤسسة الثقافية النظيفة، والعائلة النظيفة المثقفة يسهل مواجهة تحديات العولمة الثقافية وثورة تكنولوجيا المعلومات الرقمية». العديد من مثقفي وكتاب الإمارات الشقيقة استوقفهم ما حدث على هامش المعرض من فعاليات ومسابقات وورش عمل ومحاضرات وحوارات عن الإنتاج السينمائي، وإعداد الأفلام الوثائقية، والفنون التشكيلية، والرسم الكاريكاتيري، والخط العربي، ومهارات الأطفال في تحويل النفايات الإلكترونية إلى أعمال إبداعية مثيرة للدهشة، فكتبوا مسرورين بمشاهدة طوابير من البشر تتدافع نحو اقتناء الكتاب، وأخرى تتسابق لحضور الفعاليات المشار إليها وسط أجواء من الفرح الغامر والضجيج والحيوية. وهذا كله دليل على أن أبوظبي نجحت في خلق حالة ثقافية تبعث على الأمل، خصوصاً وأن المعرض استقطب هذا العام 1125 دار نشر وأكثر من نصف مليون عنوان وأكثر من 150 مفكراً ومثقفاً وأكاديمياً وفناناً من 34 دولة. هذا ناهيك عن تخصيص الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة لمبلغ ثلاثة ملايين درهم لتوزيعها على طلبة المدارس والجامعات والمعاهد كي يقتنوا ما يشاؤون من الكتب ومصادر المعرفة ومنتجات العقل البشري. لفت نظري وأنا أتجول في المعرض وجود ثلاثة أجنحة كبيرة مستقلة مخصصة لكل من ألمانيا وفرنسا والسويد. ولئن كانت هذه الأجنحة لم تعد غريبة على معارض الكتاب الخليجية في السنوات الأخيرة، فإنها في معرض أبوظبي للكتاب لم تأت لتروج لإبداعات مواطنيها كما جرت العادة، وإنما جاءت لعرض الكتب الخاصة بالمنطقة العربية من تلك التي كُتبت بلغاتها الوطنية. فعلى سبيل المثال دخلتُ الجناح الألماني، وأنا أمني النفس بالعثور على كتاب يسعفني في إحياء لغتي الألمانية التي علاها الصدأ بسبب توقفي عن استخدامها لزمن طويل، فإذا بالمسؤول عن الجناح يفاجئي بعدم وجود ما أبحث عنه، ويخبرني بشيء من العربية أن مشاركتهم في المعرض إنما من أجل نشر الثقافة الخليجية من خلال مجموعة من الكتب الصادرة باللغة الألمانية مثل كتب «قابوس يدافع عن التغيير»، و«حضارة اليمن القديمة»، و«الإمارات العربية المتحدة بين الماضي والمستقبل». وقبل أن أشكر المسؤول عن الجناح الألماني وأغادر مقره استوقفني ليسألني عن بلدي، فما أن أخبرته أني من البحرين حتى ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة معطوفة على عبارة «نحن المؤسسة التي صممنا مكتبة مركز عيسى الثقافي» في المنامة. هكذا الألمان! لا يبعثون بكل من هب ودب لتمثيلهم في المحافل والمعارض الأجنبية، وإنما يختارون أفضل رجالهم وأكثرهم خبرة وعلماً وقدرة على التواصل والحوار وخلق الانطباع الإيجابي لدى الآخر. في مقابل هذا المشهد ذهبت إلى جناح دولة عربية باحثاً عن عنوان معين في التاريخ الحديث، لأجد أمامي مسؤولا منفراً في شكله وطريقة حديثه، بل كان تثاقله في الاستجابة لطلبات الجمهور، وطريقة جلوسه على مقعده، وهو يوحي وكأنه أرسل لتمثيل بلاده عنوة. فخرجت من هذا الجناح بانطباع سيء للغاية خصوصاً وأن المسؤول طلب مني أن «أخذ لفة أو لفتين وأرجع» مع وعد منه بالبحث عن طلبي وتجهيزه، فإذا به يجلس في مكانه كالطبل كما تركته دونما اكتراث. من الأمور الأخرى التي استوقفتني في المعرض أيضاً، ركن خاص بأعمال الخطاط الإماراتي المبدع «محمد مندي» المنحدر أصلاً من «الحد» بالبحرين، والذي درس الخط في مصر على أيدي كبار الخطاطين المصريين قبل أن يعود إلى الإمارات وتتاح له الفرصة لإظهار إبداعاته من خلال معارض في شرق العالم وغربه على هامش افتتاح المراكز والجوامع الإسلامية في تلك الديار. وأخيراً فقد لفت نظري في معرض أبوظبي للكتاب شيئين تمنيت لو يتحققا لدينا في البحرين، بل في كل قطر خليجي. أولهما كان وجود ركن في مدخل المعرض تحت اسم «ركن المؤلفين الإماراتيين»، ينحصر عمله في عرض وإبراز إبداعات المؤلف الإماراتي دون سواه تحت سقف واحد، بدلاً من تشتتها وتوزعها بين أجنحة الناشرين المختلفين. وثانيهما وجود دار نشر مثل «دار كتّاب» لصاحبه الأستاذ جمال الشحي الذي أخذ على عاتقه نشر إبداعات مواطنيه المبتدئين مجاناً كي يضعهم على أول سلالم الصعود. فالشحي يتسلم المادة من صاحبها ويخضعها للتصحيح اللغوي ويصمم لها الغلاف ثم يطلقها مطبوعة كي تأخذ مسارها وتنافس. وهذه لعمري خطوة جريئة ومخاطرة لا يقبل عليها إلا ذوو الروح الوطنية ممن يتوقون لرفعة شأن أوطانهم وتخليص مواطنيهم المبدعين من استغلال وجشع دور النشر. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين Elmadani@batelco.com.bh