انطلق حكم فلاديمير بوتين لروسيا منذ أول يوم في سنة 2000. واليوم، وبعد مرور 14 سنة على توليه السلطة، لا تلوح في الأفق أي إشارة لاستعداده للتخلي عن منصبه، بل أعلن عن احتمال ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2018، ما يعني أنه قد يظل في الحكم حتى عام 2024 ليكون عمره وقتها 72 سنة. لكن ما يجب تذكره أنه لا وجود لاستبداد أبدي، فطموح هتلر لتأسيس رايخ جديد يدوم ألف سنة لم يتجاوز 12 عاماً، وهو السياق الذي يتعين وضع بوتين في إطاره، فسلطته لم تعد على عهدها في السابق، كما أن العقد الاجتماعي الذي أقامه مع الشعب الروسي الذي يستطيع بموجبه القيام بما يريد طالما ظلت الظروف المعيشية للروس في تحسن مستمر، بدأ في التلاشي، أما معدلات النمو المرتفعة التي أسس عليها شعبيته فلم تعد موجودة، وإلى جانبها تراجعت الظروف المعيشية لأغلب الروس خلال السنوات الأخيرة، والنتيجة أن الروس باتوا أكثر تململاً من ذي قبل. وفيما يعجز العديد من الروس عن تصور بلادهم دون وجود بوتين في قمة السلطة، فقد حان الوقت بالنسبة للغرب كي يبدأ في التصدي للكرملين في نسخته الجديدة التي يريد من خلالها استرجاع أراضٍ كانت تابعة لروسيا، وهو ما يستدعي من الغرب بلورة رؤية واضحة حول روسيا ما بعد بوتين. والحقيقة أن دخول بوتين بوابة السلطة لم يكن يخطر على بال أحد، ولا كان مرجحاً، فقد كان بمثابة الرئيس الذي لم يتوقعه أحد، فهو لم يكن وجهاً معروفاً، بعد أن أمضى الجزء الأكبر من مساره المهني في «كي جي بي» خلال فترة الاتحاد السوفييتي، ثم انتقل إلى موسكو عام 1996 لتبرز بسرعة سمعته كرجل الظل صاحب النفوذ الكبير، وبسرعة تمكن من تسلق درجات الكرملين إلى أن تولى في عام 1998 رئاسة جهاز الاستخبارات الروسية الجديد، وعندما قرر الرئيس يلتسين إجراء تعديل حكومي بعد الأزمة المالية التي عصفت بروسيا في 1998 استقر خياره على بوتين كرئيس للحكومة بعد خمسة رؤساء وزراء سبقوه في ظرف سنة واحدة. ويبدو أن يلتسين الذي كان يواجه تهماً بالفساد أراد خلفاً يدين له بالولاء، وهو ما حدث بالفعل، إذ مباشرة بعد تقلد بوتين للسلطة في آخر يوم من 1999 كان أول قرار أصدره هو تمتيع يلتسين بالحصانة لمنع محاكمته. لكن مع ذلك ظل غموض بوتين مصاحباً له، حيث لم يكن معروفاً لدى الروس أو الغربيين، ما دفع مجلة «الإكونمست» إلى وصفه بـ«المجهول الكبير». وفي ظل بوتين، أسس الكرملين نظاماً فاسداً يكبح الديمقراطية ويمركز السلطتين الاقتصادية والسياسية في أيدي القلة، بالإضافة إلى تقييده للحريات الصحفية ولجمه القضاء، وتضييقه على الحريات المدنية، ناهيك عن دوس النظام الجديد كلياً على حقوق الإنسان. فخارج روسيا لم يتردد النظام في مناطق الصراع التي خاضها في تنفيذ إعدامات خارج القانون، وفي الاستخدام العشوائي للقوة، في انتهاك تام للأعراف والقوانين الدولية. بيد أن الأمر لم يكن دائماً على هذا النحو في روسيا، فخلال تسعينيات القرن الماضي، كانت لديها فرصة كبيرة لتطوير نظام ليبرالي وديمقراطي، حيث عاشت البلاد فترة من الديمقراطية والتعددية الحزبية يتم فيها اختيار المسؤولين عن طريق الانتخاب، وكان اقتصادها مفتوحاً أمام السوق والملكية الفردية دون قيود، أما الإعلام فكان مستقلاً وتعددياً، والأكثر من ذلك واصلت روسيا انسحابها الهادئ من دول أوروبا الشرقية وسمحت بتمدد الحلف الأطلسي. غير أن تأثير بوتين الأوضح على روسيا كان في المجال السياسي، ففي الانتخابات البرلمانية لسنة 1999، وهي الأخيرة قبل صعود بوتين للسلطة، شارك ما لا يقل عن 32 حزباً سياسياً؛ وفيما يعكس العدد الكبير للأحزاب المشاركة بعض الفوضى التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي، إلا أنه كان خياراً مفتوحاً أما الروس لانتخاب مسؤوليهم، وهو ما ترجم إلى نقاش سياسي حقيقي، وتنوع في المبادرات المقترحة. ولنقارن ذلك مع الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 2011 التي تقلص فيها عدد الأحزاب المشاركة إلى سبعة فقط، وهي أحزاب من المعارضة «الطيعة» التي تدين بوجودها للكرملين. ومباشرة بعد صعوده للسلطة، جمع بوتين حوله دائرة ضيقة من الأفراد الذين أوكل إليهم مهمة مساعدته في الحكم وبناء «روسيا الجديدة». ومع أن بعض الوجوه تغيرت خلال السنوات الأربع عشرة الأخيرة، فإن العديد منهم ظلوا في دائرة الضوء، وهي دائرة تنقسم إلى مجموعتين لبعضهم صلات وثيقة مع بوتين ترجع لسنوات التسعينيات في مدينة بطرسبيرج، فيما تجمعه بآخرين علاقة العمل في «كي جي بي»، وربما سنوات الطفولة؛ فأولاً هناك من يمكن أن يطلق عليهم «الأوليغارشية»، وهم أفراد زاوجوا بين الثروة والسلطة لقربهم من بوتين، حيث يرأسون حالياً كبريات الشركات التي تستفيد من الصفقات الحكومية، أما المجموعة الثانية فتشمل رجال الاستخبارات الذي عملوا معه. وهنا يمكن للغرب استهداف تلك الدائرة بقسميها وإجبارهم على الاختيار بين ولائهم لبوتين والانتصار لمصالحهم الخاصة، لا سيما أن جزءاً مهماً من ثرواتهم مودع في البنوك الغربية. وبدلاً من الاقتصار على منع إصدار التأشيرات لهؤلاء الأشخاص وتجميد أصولهم في الغرب، يمكن للعواصم الأوروبية وواشنطن مصادرة تلك الأصول، وهو ما من شأنه زرع بذور الانقسام في دائرة السلطة بالكرملين، وإحداث شروخ في تركيبتها قد تضعف بوتين وتعجل برحيله. أندرو فوكسال مدير مركز الدراسات الروسية التابعة لجميعة هنري جاكسون- لندن ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»