في سابقة ربما تكون هي الأولى من نوعها، قرر مجلس الأبحاث الطبية في بريطانيا تمويل دراسة تشمل 350 ألف شخص، بهدف معرفة عوامل الخطر التي تزيد أو ترفع من احتمالات الإصابة بعته أو خرف الشيخوخة، في المراحل اللاحقة من الحياة، وقبل أن تصبح أعراض وعلامات المرض ظاهرة وواضحة للعيان. وبالنظر إلى عدد الأفراد المشاركين، تعتبر هذه الدراسة هي الأكبر من نوعها على الإطلاق في هذا المجال. وينتمي هؤلاء المشاركون إلى ما يعرف بالبنك الحيوي البريطاني (UK Biobank)، وهو أكبر بنك حيوي أو بيولوجي في العالم، حيث يزيد عدد الأشخاص المشاركين فيه حالياً عن نصف مليون شخص. ويشارك -أو بالأحرى يتطوع- الأفراد في هذه البنوك، من خلال التبرع بعينات من بعض سوائل الجسم، مثل الدم، والبول، واللعاب، بالإضافة إلى خضوعهم لمنظومة من الفحوص؛ تشمل: الطول، والوزن، وحجم دهون الجسم، ومستوى ضغط الدم، وفحص النظر، ووظائف الرئة، وكثافة العظام، ومستوى اللياقة البدنية، بالإضافة إلى الإجابة عن قائمة طويلة من الأسئلة؛ تشمل: نمط وأسلوب الحياة، ونوعية الغذاء، والتدخين، وشرب الكحوليات، وباقي العادات السلوكية والشخصية. وهذه العملية التي تستغرق قرابة الثلاث ساعات، يتم جمع العينات والنتائج الصادرة عنها، وإرسالها إلى مقر رئيسي، حيث يتم تخزينها في برادات ضخمة، درجة حرارتها تحت الصفر بمراحل. ويأمل العلماء، أنه بعد عقود عدة، وبعدما يصاب هؤلاء المتطوعون بأمراض، أو حتى بعدما تدركهم المنية، يمكن أن يتم تحليل العينات والبيانات، لمعرفة العلاقة المرضية، وللربط بين عوامل الخطر التي كانت موجودة في حياتهم، والأمراض التي أصيبوا بها، أو بين عوامل الخطر وبين أسباب وفياتهم. وتشكل معرفة عوامل الخطر خلف الأمراض والوفيات، حجر زاوية في العلوم الطبية الحديثة، يمكن على أساسها تطوير السبل الكفيلة بتخفيف وقعها، وتفعيل الإجراءات اللازمة للوقاية من تبعاتها وآثارها السلبية. وغالباً ما تتضمن قواعد بيانات البنوك الحيوية -أو على الأقل في حالة البنك البريطاني- اختبارات تتعلق بالمنطق، وبقياس القدرات الذهنية والعقلية للمتطوعين. وهي الحقيقة التي ستعتمد عليها الدراسة الممولة من مجلس الأبحاث الطبية (Medical Research Council)، من خلال سؤال المتطوعين في البنك، الذين أجروا اختبارات القدرات الذهنية والعقلية سابقاً، بإعادة الاختبارات على فترات متباعدة، من خلال موقع خاص على شبكة الإنترنت، لبيان ما إذا كان هناك انخفاض ملحوظ في تلك القدرات، خصوصاً على صعيد الذاكرة قصيرة الأجل. وفي حالة إصابة المتطوع بعته الشيخوخة، وتأكيد التشخيص، يتم ربط نتائج تلك الاختبارات، وما أظهرته من انخفاض تدريجي في القدرات العقلية والذهنية، مع نمط وأسلوب حياة الشخص، وحالته الصحية، وما تعرض له من أمراض وعلل، بالإضافة إلى تركيبته الوراثية، المستقاة من عينات السوائل الحيوية التي تبرع بها سابقاً. وبناء على أنه في مرض الزهايمر -أحد أنواع العته أو الخرف- تقع تغيرات تشريحية ووظيفية في المخ، قبل سنوات وعقود من ظهور الأعراض والعلامات، يأمل القائمون على الدراسة، في تحديد ومتابعة هذه التغيرات في مراحلها الأولية، وربطها بالظروف الحياتية، وبالتركيبة الوراثية، ومن ثم تفعيل السبل والإجراءات التي تحقق الوقاية، أو ربما تساعد على العلاج. ويقدر أنه إذا ما نجح الأطباء في تأجيل ظهور المرض بصورته الكاملة، ولمدة خمس سنوات فقط من عمر المصاب، فسيخفض ذلك من عدد المرضى المحتاجين للرعاية الصحية والطبية بمقدار النصف. ويعرف عته الشيخوخة على أنه: تدهور مطرد في القدرات العقلية الإدراكية، نتيجة مرض أو تلف في المخ. وهذا التدهور يؤثر بشكل خاص على مناطق المخ المعنية بالذاكرة، والتركيز، واللغة، والقدرة على حل المشكلات، وغيرها من الوظائف العقلية العليا. وفي المراحل المتقدمة، يفقد المريض أيضاً إحساسه بالزمان، فيصبح عاجزاً عن معرفة أي يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة يعيش فيه حالياً، مع فقدان الإحساس بالمكان فيصبح غير قادر على إدراك مكان وجوده، ويصبح أيضاً عاجزاً عن معرفة نفسه وهويته. ومن الخطأ الاعتقاد بأن العته هو نتيجة طبيعية للشيخوخة. فعلى رغم أن التقدم في العمر، يترافق بتدهور طبيعي في الذاكرة، وفي التركيز، وغيرها من القدرات العقلية، فإن هذا التدهور ليس على نفس القدر والدرجة المصاحبة للإصابة بعته الشيخوخة، وهو ما يعني أن الشيخوخة الطبيعية لا تقترن دائماً بالعته. ويشكل حالياً عته الشيخوخة تحدياً صحيا عالمياً، حيث تشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من 35 مليون مصاب بهذه الحالة الطبية حالياً، مع تواتر التقديرات بأنه بحلول عام 2020، أي بنهاية العقد الحالي، سيصل عدد المصابين إلى 70 مليوناً. وبخلاف الثمن الإنساني لعته الشيخوخة، يقدر أنه يكلف اقتصادات دول العالم حوالي 600 مليار دولار (2,2 تريليون درهم)، حسب تقديرات عام 2010. وتتحمل دول أوروبا الغربية، وأميركا الشمالية، 70 في المئة من هذه التكلفة حالياً، وإن كان 60 في المئة من المصابين يقطنون الآن في الدول النامية. وتحاول الدول الصناعية والغنية خفض هذه التكلفة الاقتصادية الهائلة، التي يتوقع لها أن تزداد بشكل مطرد خلال العقود القادمة، مع زيادة شيخوخة تلك المجتمعات وإصابة أفرادها بالهرم، من خلال استثمار المليارات في الأبحاث الرامية لاكتشاف علاج، أو سعياً لفهم طبيعة المرض وإمكانية الوقاية منه.