هناك نماذج عديدة جزئية وكلية لمحاولة إطلاق العنان للخيال السياسي بغية الخروج من ضيق الواقع إلى رحاب الآتي، سواء على المستوى النظري أم التطبيقي العملي. وهناك مثل تطبيقي بالغ الدلالة، قدمته المعارضة السياسية في بولندا حين تخيلت خلال حكم نظام شيوعي مستبد أنها تعيش في مجتمع حر، ولهذا وسعت من هامش الحريات الضيق أو خلقته أصلاً، بعد سنوات من قرارها الانفصال عن النظام الرسمي والعمل بشكل مستقل، وإيجاد حياة عامة بديلة، حيث خرجت من تحت الأرض، ونشر المعارضون أسماءهم وعناوينهم وأرقام هواتفهم، ووزعوا منشورات على الناس، فكسبوا أرضاً جديدة، وقفوا عليها ليسقطوا النظام فيما بعد. وهم هنا لم يكتفوا بالإغراق في حلم التغيير، وإنما صنعوا هذا الحلم، وحولوا «الافتراضي» إلى «واقع» وما «ينبغي أن يكون» إلى «كائن». فقد تجاهلوا السياق السياسي الاجتماعي القابض، الذي يجثم على صدورهم، وتصرفوا وكأنهم يعيشون في دولة ديمقراطية، فكسروا حاجز الخوف، وتعدوا الخطوط الحمراء التي كانت قد رسمتها السلطة المستبدة أمام أقدامهم، فحققوا بالخيال ما أرادوه. وتوجد نماذج جزئية، فردية أو مؤسسية، على الخيال السياسي، منها ما قدمه بريجنسكي في كتابه «الاختيار»، الذي يصفه بأنه «تنبئي من جهة وتوجيهي من جهة أخرى»، فيما يصف هنتنغتون الكتاب بأنه «تحليل ألمعي موجز، ولكن ثاقب البصيرة للسياسة العالمية المعاصرة والدور الأميركي فيها»، ويقول كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة إن بريجنسكي «يقدم حجة بارعة لصالح التعددية بتفكيره الواضح المألوف، وسعة بصيرته، ويكشف لماذا يجب أن نسعى إلى بناء مجتمع عالمي ذي مصالح مشتركة، وكيف يمكن أن تساعد الولايات المتحدة بقيادة هذا المسعى». وحاول بريجنسكي في كتابه هذا أن يجيب على أسئلة من قبيل: ما هي التهديدات الرئيسية التي تواجه أميركا؟ وكيف تتصدى لها؟ وهل يحق لها أن تكون الأمة الأكثر أماناً في العالم، وهل بوسعها أن تدير بكفاءة علاقاتها الاستراتيجية مع العالم الإسلامي الذي ينظر إليها غالباً بوصفها عدواً؟ وهل بمكنتها أن تحسم الصراع العربي الإسرائيلي؟ وماذا يلزمها لجلب الاستقرار إلى بلاد البلقان؟ وهل بمقدورها أن تؤسس شراكة حقيقية مع أوروبا؟ وهل يمكن ضم روسيا إلى إطار أطلسي تقوده واشنطن؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تمارسه أميركا في الشرق الأقصى؟ وما احتمال أن تؤدي العولمة إلى إيجاد مذهب مخالف أو تحالف مضاد لأميركا؟ وما هو حجم تهديد الزيادة السكانية والهجرة للاستقرار العالمي؟ وهل تتواءم الثقافة الأميركية مع المسؤولية الإمبريالية بالضرورة؟ وهل تتوافق ديمقراطيتها مع دور الهيمنة السياسية؟ وكيف تتفاعل واشنطن مع التفاوت في القضايا الإنسانية؟ أما المحاولات المؤسسية الخاصة، فمنها تلك التي أخذها أحد الناشرين في بريطانيا على عاتقه خلال عشرينيات القرن العشرين، حيث تبنى مشروعاً طموحاً لاستكشاف المستقبل، فطلب من 100 عالم وخبير وباحث وأديب، أن ينتجوا عدة كتب، كل في تخصصه، يتصورون فيها حياة الناس بعد نصف قرن. وتوجد محاولات قامت بها مؤسسات عامة في دول أو عبر منظومة دولية، منها تلك التي جرت في الولايات المتحدة الأميركية في عام 1975، بمناسبة مرور قرنين على استقلال البلاد، حيث قام اثنان من علماء الفيزياء هما هيرمان كان وبراون ومعهما مارتل عالم السياسة، بإعداد دراسة بعنوان «العالم بعد مائتي عام» محاولين أن يقفوا على معالم الثورة العلمية والتقنية خلال القرنين المقبلين، منطلقين من مقولة مفادها: «نحن في زمن ذاعت وراجت فيه دراسات تشير إلى أن مستقبل البشرية مظلم وكئيب»، لتبدأ الأسئلة: ما العمل؟ وما هو المصير؟ وهل تنتظر البشرية كارثة محققة؟ وكيف يمكن أن نتفادى هذا؟ ثم قدموا رؤية حول المنظور الصحيح للنمو وسبل البحث عن طاقة بديلة ومتجددة ومستقبل المواد الخام، وحجم الطلب على الغذاء، ووضع البيئة، ومشكلات الانتقال إلى مجتمع ما بعد التصنيع. وصارت هذه الرؤية نواة لسلسلة من الدراسات المستقبلية ظهرت في العقود اللاحقة لتستشرف ما سيكون عليه العالم. وهناك المحاولة التي قامت بها المؤسسة الفنلندية للبحث والتنمية عام 1991 تحت إشراف رئيس وزراء البلاد لاستشراف توجهات التطور العالمي، والوقوف على القوى الرئيسة التي ستحرك الأحداث، وقد انتهت إلى وضع خمسة سيناريوهات محتملة: أولها أسمته «المخطط الكبير» Master Plan ويرى أن الاندماج العالمي سيقود إلى تناغم اقتصادي وسياسي، وتنمية مستدامة، في كنف التعاون الدولي وتقوية المؤسسات العالمية. وثانيها هو سيناريو المال والتكنولوجيا Money Tech وهو يتوقع دخول العالم في مرحلة انتقالية اقتصادياً وسياسياً بفعل التطور الصناعي الذي تغذيه الشركات متعددة الجنسيات يصاحبها نمو غير عادل، وتفكك البنى الاجتماعية. أما ثالثها فسيناريو عالم الاختلافات Worlds of Difference حيث يعود الصراع الأيديولوجي الذي كان سائداً في سنوات الحرب الباردة، ولكنه هذه المرة بين الحضارات الإنسانية الكبرى في العالم المعاصر. ورابعها يسمى سيناريو ما بعد السقوط ِAfter the Fall حيث تتراكم المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية التي يعاني منها العالم، فتنجم عنها اضطرابات تحتم مراجعة جذرية لمفهوم «التطور الاجتماعي» وتدفع في اتجاه إعادة تشكيل النظم الاجتماعية والسياسات الاقتصادية. والأخير هو سيناريو المراكز والمحيطات Centers and Peripheries إذ تقود الصراعات الحادة بغية الهيمنة إلى بروز مراكز عالمية جديدة للسلطة. وفي عام 1994 عكف أكثر من 250 باحثاً وخبيراً فنياً من كبار المهنيين من المكاتب والشركات الهندسية والمتخصصة والأكاديميين من كل الجامعات في إسرائيل وممثلين لعشر وزارات، وممثلين عن الوكالة اليهودية وسلطة المياه ودائرة أراضي إسرائيل، على الإجابة عن سؤال مفاده: كيف ترى إسرائيل نفسها في عام 2020؟ وعلى مستوى المنظومة الدولية بأسرها هناك محاولة قامت بها الأمم المتحدة، حين شكلت لجنة عالمية للبيئة والتنمية برئاسة رئيسة وزراء النرويج آنذاك، وطلبت منها أن تعد، بمساعدة فريق من الباحثين والخبراء، دراسة مشكلات البيئة والتنمية فوق كوكب الأرض، وكيف يمكن استخدامها من دون الجور على مقدرات الأجيال القادمة. بل وصل الأمر إلى مساهمة الآلاف في هذه الدراسة وهو ما عبرت عنه رئيسة اللجنة بقولها: «لقد ساهم الآلاف من الناس من جميع أنحاء العالم في عمل اللجنة بالوسائل الفكرية والمالية، وبمشاركتنا في تجاربهم بواسطة التعبير عن حاجاتهم ومطالبهم». وقد وجهت اللجنة نتائج عملها إلى الحكومات ومنظمات المجتمع المدني والقطاعات الخاصة عبر العالم كله، ودعت الجميع إلى التضافر من أجل مواجهة التحديات التي تجابه البيئة والتنمية. وهناك دول استفادت من نتائج هذا الدراسة، وأخرى لم تلقِ لها بالاً.