قيل كل شيء تقريباً في الانتخابات الرئاسية المزمعة في سوريا، ومع ذلك تبقى ثلاث بدهيات في كل الأذهان، ولا بدّ من تسجيلها. الأولى أنها بمواصفاتها الخاصة وبكل المواصفات المعروفة، غربية أو عربية، متكيّفة مع الظروف ،أو متجاهلة، أو بينَ بين، لا يمكن أن تُسمّى انتخابات. والثانية أن الجدل حولها بيزنطي عقيم، ذاك أن هناك قانوناً للانتخاب و«دستورًا» ينص على إجرائها، وأن هناك أياد تُدلي بالمظاريف في صناديق الاقتراع، إلا أن النظام ألغى منذ نشوئه الانتخابات معنىً ومغزىً ووظيفة، وغدا التصويت مجرّد دفع للبلاء واجتناب للأذى. أما الثالثة فهي أنه يصعب العثور على حاكم راكم كل هذه الارتكابات في حق البشر والحجر والزرع والضرع، ثم يفكّر في أن يعيد انتخاب نفسه بالطريقة البائسة نفسها. فليبقَ، طالما أنه باقٍ، والسلام. تقول الحجّج الطبيعية، إن النظام لا يريد فراغاً دستورياً، ولاتشكيكاً في «شرعية» وجود الرئيس، وأن الاستحقاق أزف وينبغي احترامه، هذا يفترض أن كل ما أقدم عليه النظام، طوال عقوده الخمسة، كان في إطار «دولة قانون» بامتياز أين منها الدول العريقة ذات الدساتير المكتوبة، أو العرفية غير المكتوبة، فتاريخه متخم بممارسات لا يقرّها قانون ولا عرف، ولا مجال هنا للغوص فيها، إلا أنه يحسن التذكير فقط بأن دستور أي «جمهورية» لا يمكن أن ينصّ على توريث الرئاسة، أو جعلها وراثية، وإلا فهي ليست جمهورية. لم يخطر في بال أصحاب تلك الحجج أي حال أصبحت عليها «الشرعية»، وفي أي حال يراد تجديدها، وكيف يمكن للحاكم القول، إنه لا يرى شيئاً «يمنعه» من الترشّح للرئاسة، ولعله لم يخطئ، فهو يعرف جيداً أن «الشرعية» التي يُحكى عنها أُخذت عنوةً، ولم يمنحها الشعب ليستردّها. لكن هناك الكثير الكثير مما تمكن رؤيته، بل مما يصفع العيون، ويخلع القلوب، ويستوقف العقول ويستدعي الضمائر، وجلّ ما يُرى هو من «إنجازات» النظام، ففي الكارثة التي تعيشها سوريا ما يشير بوضوح وبساطة إلى إخفاق تاريخي ونهائي لبنية سياسية وقيمية متخلفة ومتهتّكة استندت أولاً وأخيراً إلى «آلة القتل»، ولم تستطع الخروج من عصر غابر اغتربت إليه، ولم تهتدِ إلى سبيل للعودة منه، فما «يمنع» الترشّح وإجراء الانتخابات هو هذا المليون إنسان سوري بين قتيل وجريح ومعوّق ومفقود ومعتقل تحت التعذيب، وهو ما يقارب نصف الشعب السوري بين مهجّر ونازح وهارب وجائع ومحاصر، وهو ملايين الأطفال الذين خرّبت حياتهم، وخُطفوا خطفاً من مدارسهم ومن مستقبلهم، وهو هذه المدن والبلدات، والقرى التي اقتلع أهلها اقتلاعاً، ولم يعودوا إلى أي مكان استعادته قوات النظام وحلفاؤه، أي هو هذان الأمن والأمان اللذان ما عاد النظام يمثّلهما أو يوطّدهما لا لخصومه ولا حتى لأنصاره، بل هذا الدمار والأرض المحروقة، وهو هذا الاقتصاد المتمادي في الانعدام، وبالأخصّ هو هذا البلد الذي يتلاشى وتتشظّى خريطته، وأخيراً هو هذا الشعب الذي اكتوت طيبته وانتُهكت كرامته وديست مسالمته وسُحقت طموحاته... هذا بعضٌ مما يُرى الآن ولا يراه سوى أعمى البصيرة، فإذا لم يشكّل سبباً لعدم الترشّح، فلا شكّ أنه يكفي دافعاً لواحد من أمرين: الانتحار أو الرحيل. يُقال أيضاً، إن النظام استطاع أن يبرهن أمرين: أولاً أنه استعاد زمام المبادرة عسكرياً، وثانياً أن لديه هو الآخر أنصار يشار اليهم لتأكيد أن «الشعب معه». أصبحت أسباب «الانتصارات» الميدانية معروفة، فالقوى الدولية الداعمة للمعارضة القلقة من انتشار المجموعات الإرهابية سكتت عن تدخل إيران و«حزب الله» والميليشيات العراقية، مفضّلةً الشيطان الذي تعرفه على ذاك الذي لا تعرفه، لكنها لم تتجاهل دور النظامين الإيراني والسوري في تسهيل اختراق إرهابيي «داعش» لمناطق المعارضة، ولذلك، فإن انتصارات النظام لم تترجم بقبول له والصفح عن جرائمه. أما «الشعب الذي هو معه»، فهو الشعب الذي كان دائماً معه محكوماً بقانون الصمت والخوف. هناك طبعاً مَن هم مع النظام بحكم الانتماء والمصالح، لكن خوفهم منه ومن أخطائه وتهوّراته بات ينافس خوفهم عليه. فحتى هؤلاء المؤيدون لم يشأوا في أي يوم أن يُقصم ظهر التعايش الوطني، وأن تُوضع وحدة البلد في مهب الريح، ولا شك أنهم يتساءلون كسواهم كيف تُجرى انتخابات في غيابٍ قسري لأكثر من نصف السكان؟