حين وقعت أحداث «أوكرانيا»، وفي مظهرها الشعبي أولا، استحضر الكثيرون ما دار حول «الثورات البرتقالية» في شرق أوروبا. لكن الأمر هنا بات مختلفاً، لأن الظاهرة قد تتكرر شكلياً بينما معالم «القوة الروسية» تقدم نفسها هذه المرة كرمز لـ«القوة السوفييتية» الحقيقية دون مواربات كثيرة ! ومن ثم تغيرت كثير من التساؤلات والإجابات في بلدان العالم الثالث أو ما بات يُعرف ببلدان الجنوب. والملفت فعلًا هو سرعة طرح الأسئلة الجديدة، رغم أنها تبدو أسئلة استراتيجية بعيدة المدى حول الاستغلال، والتبعية، والاستقلالية، والأمان أو الأمن الإقليمي وتوازن القوى، وملامح الوجوه الجديدة هنا وهنالك. وبسرعة ملفتة ينتقل التساؤل حول أفريقيا، بل والعالم العربي، من مجرد تساؤلنا عما كنا نسميه بـ«التكالب» على ثروات أفريقيا أو إخضاع شعوبها، أو استغلال الثروة العربية، وأدوار شعوب بينها مثل مصر، إلى تساؤلات جديدة تتعلق باختلاف أدوار الصغار والكبار بين اللاعبين في النظام العالمي نفسه، والمعايير الجديدة التي قد تدفع أو تحد من أوضاع القوى المختلفة، ما لم تكن جديدة، ممتدة من الخليج إلى وسط وشرقي آسيا، وإلى أبعاد في القرن الأفريقي أو الصحراء الكبرى. ولا نريد هنا أن يتجه التفكير مباشرة إلى أدوار تآمرية في تغيير وضع أو دور هذه الدولة أو تلك، بل أميل للتأكيد على أن التفاعل الذاتي أو الداخلي، ما زال حاسماً، وأن التقاء ذلك بالتفاعلات المحيطة هو الذي يؤثر في اتجاه الدور وثقله. ينطبق ذلك على ثورة جماهير شعب مصر مثلاً، لنرى كيف تسرع إليها « أياد» للتأثير من هنا وهنالك، أو يتحرك الشعب السوري أو اليمني لنرى تطورات في نهاياته ليست من طبيعة البدايات، ناهيك عن كارثة ليبيا وآثارها الداخلية والخارجية، بما لم يكن متصوراً بأي حال، بل إن تطور البناء الذاتي الروسي نفسه، صحبه تطور كامل في العلاقات الدولية، ومحددات جديدة للصراع أو التنافس الدولي. وهذا النهج في تطور الأحداث امتد إلى مناطق عديدة في العالم يمكننا أن نتلمس آثارها، ولم تكن حتى وقت قريب، توحى بإمكان التساؤل بشأنها، وينطبق ذلك أولاً على أحداث أوكرانيا غربها وشرقها، بما لم تكن توحى بكل ذلك. لم نكن نفكر كثيراً من قبل في أن مبيعات السعودية من البترول، أو التعاملات التجارية الخليجية الأخرى قد تتجه شرقاً إلى هذه الدرجة التي تجعل من إطلالة دول الخليج على وسط وشرقي آسيا موحية بكل هذا التفكير في اتجاه التسليح وطبيعة حماية الوضع في مصر، واحتمالات عودة المنطقة (خليجياً ومصرياً) لتصير ذات وزن جديد في الصراعات الدولية الأكبر. لم نكن نفكر مثلاً في سرعة التحول في وضع تركيا، في سابق إطلالتها بطموح على المشرق العربي ووسط آسيا، ليشعر الآن بالانتكاسة التي تعيد إخضاعها لطلب رحمة «الناتو» وإعادة حساباتها في حدود هذه الدائرة لا أكثر إن قدر لها أن تطرد قوتها على نحو ما تطمع، الأمر الذي سيجعل محور مصر والخليج أكثر حرية في إطلالته من سوريا على المتوسط، ومن مصر إلى قلب القارة الأفريقية عبر حوض النيل، لو قدر لكتلة التعاون العربي الأفريقي أن تلتفت لهذا التطور، متحررة من الضغط الإيراني والتركي معاً. وبدا منذ فترة كيف أن الصراع المصري الإثيوبي، قد يضاعف من دخول إثيوبيا دائرة الشرق أوسطية بأكثر من بقائها، عنصر توتر في القرن الأفريقي أو حوض النيل، ذلك أن حاجة قوى الاستثمار العربية والغربية معاً في كل من مصر وإثيوبيا، يمكن أن تعيد إثيوبيا إلى ما كانت عليه دائماً كجزء من الشرق الأوسط، وليست من الدائرة الأفريقية كما يظن البعض. وحركة رأس المال العالمي الغربي والمصالح الاقتصادية الروسية الصينية في هذه المنطقة، ستدفع الدول الكبرى المتصارعة أن تتعامل بدقة مع دول بحجم مصر وإثيوبيا (200 مليون نسمة تقريباً) وهذا بعد ما صارت الصين أحد أكبر متعامل اقتصادي مع الخليج وحوض النيل على السواء، كما أن روسيا لم تنس أبداً تاريخ إمبراطوريتها الأرثوذكسية، في إثيوبيا، كما في المشرق، مثلما لا تنسى تراثها من توجهات الشيوعية الدولية، في المشرق ومصر وإثيوبيا على السواء. هذه التطورات تتطلب بالضرورة على المستوى «الخارجي» أو«الدولي» تغيرات داخلية، تنال البنيات الاجتماعية بل والثقافية نفسها، بما قد يؤثر إيجاباً – في حال التفاؤل والتفكير على هذا النحو، وقد تمضي سلباً، لظروف أخرى وفق آفاق الحركة في المستقبل القريب. فإلى أي حد تحدث سلاسة في الموقف الإيراني، لنجعل من وسط آسيا منطقة تفاعل إيجابي، خالية من الإرهاب، ومن اضطرابات أفغانستان ومن عزل تركيا عن التأثير المباشر، المدفوع أو الطموح؟ وإلى أي حد تبرد الدماء الحارة في عروق التيارات الإسلامية لتتحول هذه التيارات إلى أيديولوجيات وطنية دعوية محلية، وليست استمراراً لتلك الأمميات التي عرضت تجارب التحول في المنطقة العربية على نحو ما رأينا، وهددت بامتدادات خطرة ممتدة من مالي إلى نيجيريا مدعومة بالسلاح الهارب من ليبيا على هذا النحو الخطير؟ وإلى أي حد يعيد النظام السوداني حساباته بدقة، ولا يغريه عودة الائتلاف الإسلامي الداخلي للاندفاع مجدداً في أوهام فرعية، لا يقدر فيها قوة مصر أو إثيوبيا وقدرتهما على عمل اختراقات لن يستطيع فيها المنافسة ولا أقول المقاومة؟ وإلى أي حد يتوقف حلف «الناتو» عن معتقداته الخبيثة، في أن سلفية ليبيا وأسلحتها يمكن أن تواصل تفاعلاتها تدميراً جاهلًا في أنحاء مختلفة من الشرق الأوسط وأفريقيا، رغبة في أن تؤدى الاضطرابات الداخلية المتواصلة في هذه المنطقة إلى مزيد من مبيعات الأسلحة المدفوعة عربياً بدورها؟ ما يقلق الباحث بحق أن يكون اشتباك بعض الأنظمة العربية أو الأفريقية (مصر ونيجيريا وتشاد ومالي مثلاً) مع مسألة الإرهاب بالمعنى الأمني المبسط السائد طريقاً لتدمير تجارب هذه الدول في التطور الاقتصادي والسياسي لمصالح صراع دولي من نوع آخر. ‏?