توترت العلاقات بين موسكو وكييف على خلفية إطاحة الرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش، المقرّب من روسيا التي ضمت شبه جزيرة القرم، ومدينة سيفاستوبول إليها، هذه التطورات لاقت تنديداً غربياً وأوكرانياً، ولكن هل هناك انقسام في أوروبا حول القضية الأوكرانية؟ فالحلول المطروحة لتسوية الأزمة الأوكرانية لا تبدو توافقية، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن السلطات الأوكرانية تحشد في المناطق المحاذية للحدود الروسية قوات تعدادها أكثر من 15 ألف جندي، وتشير إلى أن المدرعات والقوات التي نشرتها سلطات كييف حول مدينة سلوفيانسك الأوكرانية غير متكافئة مع أعداد وإمكانيات المحتجين. ومن جانب آخر ينقل «الناتو» قواته إلى أوروبا، وتجري تدريبات في إستونيا وبولندا، وسفنها دخلت البحر الأسود لإجراء مناورات عسكرية بحرية والبحرية الأميركية بدورها تقوم بتدريبات بحرية مشتركة مع سفن بلغارية ورومانية في البحر الأسود، وذلك على مقربة من سواحل شبه جزيرة القرم، ووصول المزيد من الجنود الأميركان لبولندا وليتوانيا ولاتفيا. ومن جهتها تبدأ روسيا مناورات على الحدود الأوكرانية وأخرى بحرية ستستمر لشهر في بحر قزوين، كما أن التصعيد العسكري والدبلوماسي والإعلامي بين الأطراف المتصارعة مستمر. ففي 14 مارس المنصرم استخدمت روسيا حق «الفيتو» أثناء تصويت مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار أميركي يدعو إلى عدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء في القرم، مع تهديد أوكرانيا بأن ما حصل لجورجيا قد يحصل لها إذا لم تسحب قواتها من شرق أوكرانيا، وإذا استمرت أوكرانيا في المضي قدماً في الانتخابات ،وإهمال مصالح الموالين لروسيا سيصبح تدخل موسكو حتمياً لحماية مصالح الموالين لها، ومن ثم توسيع «القائمة السوداء» بالنسبة لروسيا، وربما عقوبات جديدة بالاتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويدور الحديث عن النسخة الجديدة من الحرب الباردة على الرغم من محدودية التعافي الروسي، فالعقلية الروسية كقوة عظمى لا تزال ركيزة ثابتة، ولم تتغير السيكولوجية السياسية لشعبها، ولكن لماذا كل ذلك الآن بالذات، وما هي الجائزة الكبرى؟ إن روسيا محاصرة على حدودها بقواعد وأسلحة، وقوات الحلف الأطلسي بقيادة أميركا، ويعتمد اقتصادها على تصدير المواد الأولية بنحو 70% من إجمالي الصادرات، ولا تشكل المواد المصنعة سوى 20% من الصادرات، وتعتبر هامشية وبالمقابل الصناعات الروسية بين الأكثر استهلاكاً للطاقة في العالم، فيبدو لي أن المحور الأهم فيما يحدث في أوكرانيا، هو تأمين العمق الأمني القومي لروسيا، وشعور روسيا أن ترابها الوطني، وأراضيها التاريخية وامتدادها مهددة، وإنْ تخلت عنها بالقوة، فإنه عندما ترجع لها القوة عسكرياً واقتصادياً واستخبارياً، وتعود لاعباً مؤثراً في التحالفات الدولية لن تتوانى عن المطالبة بها مجدداً، كما يتعلق الأمر بالنفط والغاز، حيث تزود روسيا أوروبا بـ 40 في المئة من احتياجاتها من النفط والغاز، علماً بأن 80 في المئة يمر عبر أوكرانيا، وذلك الاحتكار مضعفاً لروسيا في مقاييس أمن الطاقة. فأوكرانيا تمتلك ثاني أكبر جيش في أوروبا بعد روسيا، ويتم وصف أوكرانيا بأنها «سلة خبز أوروبا»، وذلك بفضل تربتها السوداء الخصبة، وهي تاسع أكبر منتج للقمح، وخامس أكبر منتج للذرة في العالم، ومحاصيل الشعير والشوفان والبنجر والشعير هي من بين صادراتها الرئيسية، كما أنها ثاني أكبر منتج للبيض في العالم، وهي ترسل 20 في المائة من منتجاتها الزراعية، بما في ذلك المنتجات غير الغذائية إلى روسيا المجاورة، في حين يأخذ الاتحاد الأوروبي 17 في المائة، كما تتجه الصادرات الأوكرانية إلى الصين وتركيا والولايات المتحدة، ولذلك لا غرابة من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في مارس 2014، وأن تتبع ذلك مطالبة ثلاث مناطق أخرى في شرق أوكرانيا (خاركوف ودونيتسك وهانسك)، لإجراء استفتاء على الانفصال من أوكرانيا قبل 11 مايو، والمناطق الأربع هي الحاسمة في التنمية الاقتصادية للبلاد، حيث يمثلون ثلث مجموع إيرادات الصادرات، وربع الناتج المحلي الإجمالي. ومن جانب آخر، فإن الآثار المترتبة عن هذا الوضع من ارتفاع لأسعار المعادن والسلع والنفط، وما يجري في أسواق الأسهم العالمية يمثل أزمة حقيقية لبعضهم، ومنجم فرص ذهبية لبعضهم الآخر، خاصة لمن خطط لذلك السيناريو. فروسيا تراقب عن كثب تطورات الغاز الطبيعي، ووفرة الغاز الصخري في أميركا، وزيادتها للإنتاج بنسبة 25 في المئة على مدى السنوات الخمس الماضية. ويعتقد الخبراء أن إمدادات الغاز المحلية الأميركية كافية، لأن تستمر لأكثر من 250 عاماً بفضل طفرة التكنولوجيا الحديثة، وأن ما يعني روسيا من ذلك هو أثر تلك التطورات على المنطقة الأوروبية والمنافسة الحادة بين الجانب الأميركي والروسي في أسواق الغاز العالمية، خاصة بعد أن أعلنت روسيا أنها تسعى لإنتاج تريليون متر مكعب من الغاز بحلول عام 2030. وبالتالي تسعى أميركا في القضية الأوكرانية لكسر «كارتيل» الطاقة الروسية، ومنع وقوع أوروبا رهينة لسلاح الغاز الطبيعي الذي تحتاجه، وطرح بدائل تصدير الطاقة الأميركية للأوروبيين، والدخول في حرب طاقة كونية باردة مع الروس والصينيين، وتحول حلف شمال الأطلسي استراتيجياً لحلف حراسة، وتأمين ولعب دور حيوي في أمن الطاقة، من خلال حماية البنية التحتية الحيوية للطاقة، ومناطق النقل العابر عوضاً عن كونه حلفاً عسكرياً في المقام الأول. فبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، عملت روسيا على تنويع صادراتها من الغاز إلى أوروبا، من خلال بناء خطوط الأنابيب التي لا تمر بالأراضي الأوكرانية، مثل خط أنابيب التصدير عبر روسيا البيضاء وبولندا إلى ألمانيا في عام 1994، وتفعيل خط تحت سطح البحر مباشرة إلى تركيا في عام 2003 وخط أنابيب «نورد ستريم» تحت بحر البلطيق في عام 2011، والارتباط المباشر مع ألمانيا نتيجة لهذه المشاريع، ونجاح روسيا في خفض اعتمادها على أوكرانيا كبلد وبعد الانتهاء من خط أنابيب «ساوث ستريم»، والمقرر أن يتم افتتاحه عام 2018، ستصبح قيمة خطوط الأنابيب الأوكرانية قريبة من الصفر، ولكن لك أن تعرف أن أوكرانيا لديها موارد هائلة من الغاز الصخري. وإذا انفصلت شرق أوكرانيا عن غربها ستفقد كدولة جزءاً كبيراً من تلك الموارد. وكبعد استراتيجي تسعى روسيا إلى أن تلعب أزمة القرم دوراً جوهرياً لإسقاط القيود المفروضة على صادرات الغاز الطبيعي، والضغط على أوروبا. الغاز الطبيعي في طريقه إلى أن يصبح السلعة الأكثر تأثيراً على التنمية والصناعة والبيئة في العالم، فهو مؤثر كمخزون للطاقة الاستراتيجية وصناعة النفط وإنتاج الكهرباء، والنقص في إمداداته سيقوض الاقتصادات، ويضر برفاهية البلدان في جميع أنحاء العالم. فالأزمة في أوكرانيا زادت أهمية علاقة روسيا مع الصين، وهذه الأخيرة أكبر شريك تجاري لموسكو خارج الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن مشروع بناء خط أنابيب يربط الصين بروسيا، ومن المتوقع أن تُبرم الصين عقداً مع شركة«غازبروم» الروسية في أقرب وقت ممكن لمساندتها في حرب الاستخبارات الاقتصادية والمالية بين أوباما وبوتين، والتي تنمو لها أجنحة دولية غامضة. وهل تستطيع أميركا خوض حربين اقتصاديين في آن واحد، خاصة بعد أن منحت كييف مليار دولار كمساعدات عاجلة؟ ولكن هل ستقوم كييف بتسديد جزء من فواتير الطاقة لروسيا (2.2 مليار دولار)، بعد أن تم رسم ملامح خارطة طريق جديدة للنظام الدولي، ولن يعود إلى ما كان عليه في أعقاب الأزمة الأوكرانية إذا ظلت الصين طرفاً غير رئيسي في الصراع وفق الحسابات الأميركية، وفي ظل الصفقات السرية والمصالح المشتركة، فكل شيء ممكن في السياسة.