ليس هناك من يجادل حول أهمية الإعلام في كسب معركة العقول والقلوب ـ حسبما وصفتها الإدارة الأميركية ـ في مكافحة الإرهاب منذ وقوع اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر في 2001، وما أعقب ذلك من حراك عالمي تمركز في الكثير من جوانبه حول الإعلام، بمختلف وسائله وأدواته. ومن هنا قد لا يكون هناك جديد يذكر على صعيد النقاش حول دور الإعلام في الترويج للإرهاب أو الدفاع عنه، ولكن خطورة الإعلام في المرحلة الراهنة تتمثل في أنه تحول إلى أحد أبرز أدوات ما يُعرف بحروب الجيل الرابع، وهي نمط من الحروب بات يتردد كثيراً على ألسنة المحللين، وفي مقالات الرأي من دون أن يأخذ ما يستحق من اهتمام بحثي ومعرفي في عالمنا العربي لدراسة أبعاده وأدواته وكيفية التعاطي معها والتصدي لأخطارها، خصوصاً أن أدوات هذه الحروب جميعها قائمة على وسائل القوة الناعمة ومنها الإعلام بطبيعة الحال، ومن هنا تأتي خطورتها لكونها تتحرك من ملامح ومؤشرات ظاهرية اعتادت عليها الشعوب تاريخياً في حالات العداء وأجواء المواجهة. لم يكن توظيف الإعلام في الترويج لحالة الاضطراب الراهنة في العديد من مناطق العالم العربي ودوله سوى أحد أدوات حروب الجيل الرابع، حيث يزول أو يتماهى الخط الفاصل بين ماهو مدني وماهو عسكري، بين أعمال عنف وإرهاب على أرض الواقع وبين إعلام يدافع عن هذه الأعمال ويبررها ويروج لها ويكتسب لها من المتعاطفين والمؤيدين المزيد. واختراق المجتمعات وفقاً لنظريات علمية هي أحد أهداف هذا الجيل المتقدم من الحروب لتحقيق ما كان يحقق في عهود سابقة عبر الحروب والمدافع والدبابات، وخطورة هذه الحروب تكمن بالأساس في كونها النقلة النوعية الأبرز في تاريخ التخطيط العسكري منذ منتصف القرن السابع عشر، وتحديداً منذ معاهدة ويستفاليا التي أسست لمفهوم الدولة الوطنية في شكلها المتعارف عليها حالياً، ثم جاءت حروب الجيل الرابع لتنهي إحدى دعائم هذه الدولة ممثلاً في احتكارها لشن الحروب، بحيث باتت التنظيمات والجماعات تدخل في حروب ضد دول، وربما تقودها إلى الحالة التي تعرف اصطلاحاً بالدولة الفاشلة كما في دول أفريقية وآسيوية عدة. اعتقد أن دور الإعلام في حروب الجيل الرابع بات معروفاً للكثيرين، ولكن المشكلة تبقى في أن البعض لم يزل يتعامل مع الإعلام باعتباره ظاهرة غير مؤثرة في استقرار المجتمعات والدول، وأن أزمة الصدقية التي تعانيها الكثير من وسائل الإعلام تضعف من تأثير الإعلام وتحد من دوره في تشكيل اتجاهات الرأي العام، وهذا صحيح نسبياً، ولكن ليس مطلق الأحوال، فهناك إعلام فقد بريقه وتأثيره بالفعل، ولم يعد يمتلك المقدرة ذاتها التي كان يمتلك فيها ناصية الرأي العام، ولكن هذا الأمر لم يكن فقط بسبب أزمة الصدقية وكشف الغطاء الذي تتدثر به بعض وسائل الإعلام التي لعبت أدواراً مشبوهة في الفترة الأخيرة، ولكن أيضاً لوجود تنوع في البدائل وظهور منافس حقيقي للإعلام التقليدي سحب البساط من تحت أقدام معظم وسائل هذا الأخير، وهو الإعلام الجديد أو الإعلام الاجتماعي وما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي. السؤال هنا: هل هناك دور للإعلام الاجتماعي في حروب الجيل الرابع؟ والإجابة هي أن هذا النمط الجديد من الإعلام هو رأس حربة حروب الجيل الرابع بما يمتلك من تأثير هائل ومتنام، لدرجة أنه أصبح يقود الإعلام التقليدي في كثير من الأحوال، وأصبحت صفحات «فيسبوك» و «توتير» مصدر الأخبار الأساسي للفضائيات والصحف الإلكترونية، ومن هنا تأتي خطورة الدور الذي تراهن عليه القوى الكبرى في تحقيق أهدافها داخل المجتمعات والدول عبر التوظيف الجيد لهذا الجيل الجديد من الإعلام. الفجوة التقنية القائمة بين الأجيال في عالمنا العربي تجعل من الصعب على الجيل القديم الاعتراف بأن الخطر يكمن في «كبسة زر» على لوحة الحاسب الآلي، ورغم اعتراف شريحة واسعة من الجيل القديم بما حققه الإنترنت والإعلام الاجتماعي من تحولات نوعية هائلة في المجتمعات وما يمتلك من تأثيرات، فإن البعض داخل هذه الشريحة يعترف من باب مسايرة الآخرين ومن دون قناعة كاملة بأن في مثل هذه الوسائل ما يفوق الأدوات التقليدية القديمة خطورة وتأثيراً. وبرأيي الشخصي فإن أحد مصادر الخطر في حروب الجيل الرابع وما يروج له عبر الإعلام في أحيان كثيرة، باعتباره أحد أدواتها الأقوى تأثيراً، هي ثقافة المجتمعات والعمل على تآكلها بحيث يكون ذلك مدخلاً مناسباً لتفكيك الهويات الوطنية واختراق الدول والمجتمعات عبر طرق مختلفة، وهذا الأمر يحدث بشكل هادئ ومن دون أدنى ضجيج، وهذه خطورة هذا الجيل من الحروب كونه يحدث من دون أدنى ضجيج وبأدوات بالغة التعقيد وبأهداف مرحلية متداخلة. ما يحدث في دول عربية عدة على المستوى الإعلامي، تحت ستار حريات الإعلام والإبداع والرأي، يمثل في كثير من جوانبه أحد تجليات حروب الجيل الرابع، فهناك تفكيك ضمني لمنظومات القيم الأخلاقية والمجتمعية، وهناك نوع من التدريب الجماعي على الانزلاق الأخلاقي، الذي يتم تمريره تدريجياً تارة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية تارة أخرى، وذلك كله بهدف تفكيك المنظومة القيمية للمجتمع وإضعاف قابليته لمقاومة التغيير القيمي والأخلاقي وربما السياسي في مراحل لاحقة. الشواهد تؤكد أن منطقتنا تواجه تحديات صعبة ليس فقط على صعيد التغييرات السياسية التي جلبت عدم الاستقرار وكرست الفوضى الأمنية والاقتصادية والسياسية في دول عدة، بل إن المنطقة تواجه ما يشبه رياح التغيير القوية التي لا يمكن فهم أبعادها بمعزل عن أذرع النظام العالمي الجديد الذي يسعى إلى فرض منظومة قيمية عالمية ويهدف إلى نشر نوع من «النمذجة» السياسية والثقافية والاقتصادية في مختلف أرجاء العالم، وتحاول اذرع هذا النظام والقوة المهيمنة عليه أن تضعف دعائم الخصوصية في المجتمعات التقليدية من أجل ترجيح قابليتها للتغيير بمختلف أنماطه وأبعاده. إن التحدي الأبرز في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وفي مقدمتها بطبيعة الحال دولة الإمارات العربية المتحدة، خلال المرحلة الراهنة يكمن في مقدرتها على فهم بيئة الصراع الدولي الراهن ومتغيراتها ومحركاتها، ورسم السياسات والخطط والاستراتيجيات اللازمة للتعاطي بكفاءة مع التحديات الراهنة والمحتملة، وفي مقدمتها التسلل الخطر إلى مجتمعاتنا عبر أدوات إعلامية.