تقيم العديد من المنظمات الطبية والجهات الصحية المحلية والدولية، غداً الجمعة، عدداً من الفعاليات والأنشطة الصحية التثقيفية، إحياء ليوم الملاريا العالمي، والذي يحل كل عام في الخامس والعشرين من شهر أبريل. وتأتي فعاليات وأنشطة العام الحالي، على خلفية من الإحصائيات والبيانات التي تشير إلى أنه رغم تراجع الوفيات الناتجة عن الملاريا بنسبة 42 بالمئة منذ عام 2000، ورغم أن العديد من دول العالم قد أعلنت خلوها التام من المرض –بما في ذلك دولة الإمارات- إلا أن الطفيلي المسبب للمرض لا يزال يصيب 220 مليون شخص سنوياً، يلقى منهم 660 ألفاً –وفي بعض التقديرات مليونين أو حتى ثلاثة ملايين- حتفهم بسبب المرض، بينما يظل 3.3 مليار شخص –نصف عدد أفراد الجنس البشري تقريباً- معرضين لخطر الإصابة والوفاة. وتعتبر الملاريا أحد الأمراض المعدية التي تنتقل عن طريق البعوض، من الإنسان إلى الإنسان، أو من الحيوان إلى الإنسان والعكس صحيح، أو من الحيوان إلى الحيوان أيضاً. وتتنوع مسببات هذه الأمراض، لتشمل الفيروسات، والطفيليات، وحتى الديدان أحياناً، كما أنها تتميز في الغالب بكونها أمراضاً خطيرة تؤدي للوفاة، أو للإصابات والإعاقات الصحية الخطيرة. وبخلاف مرض الملاريا الشهير، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الحمى الصفراء، وحمى الضنك، وحمى الوادي المتصدع، وحمى فيروس النيل الغربي، وأنواعاً متعددة من التهاب المخ، وغيرهم، وهي جميعاً أمراض فيروسية. أما على صعيد الطفيليات والديدان، ينقل البعوض طفيلي الملاريا، ويرقات ديدان الفلاريا التي تسبب المرض المعروف بداء الفيل أو التفيل، والذي يتميز بتورم وانتفاخ شديد في أجزاء مختلفة من الجسم، وخصوصاً الساقين، ويصيب هذا المرض حالياً نحو 40 مليون شخص حول العالم، متسبباً في تشوه وإعاقة شديدين. هذه الأمراض المتنوعة التي تنتقل عن طريق لدغات البعوض، ينظر إليها المؤرخون الطبيون، على أنها كانت دائماً إحدى القوى الفاعلة التأثير في مجريات التاريخ البشري، والتي لا تزال تؤثر حتى يومنا هذا في مقدرات العديد من شعوب ودول العالم، وربما حتى في مسار التطور الوراثي لأفراد الجنس البشري. فمنذ القدم ومرض الملاريا يلعب دوراً رئيسياً في حياة مجتمعات دول العالم القديم، وخصوصاً تلك الواقعة منها حول حوض البحر الأبيض المتوسط. ففي مصر القديمة، وقبل عصور الأسر الحاكمة، عثر الباحثون على آثار الإصابة بمرض الملاريا في «مومياوات» تعود إلى تلك الفترة التاريخية السحيقة، ويؤمن الكثير من العلماء أن إنسان الكهف أو إنسان العصر الحجري، حمل معه هذا المرض الطفيلي على طريق هجرته من قارة أفريقيا إلى سواحل المتوسط، ومن بعدها إلى الهند وجنوب شرق آسيا. ومنذ تلك الأزمنة الغابرة، ومرض الملاريا يتسبب في آثار صحية مدمرة، طالما أخلت بالنسيج الاجتماعي-الاقتصادي للشعوب والدول، وهو ما نتج عنه سقوط بعض الحضارات، وأحياناً اختفاؤها التام. ولكن إذا كانت الملاريا قد تسببت في اختفاء بعض الحضارات القديمة، إلا أنها وقفت كعقبة كأداء، أمام المد الاستعماري الأوروبي للدول الأفريقية على طول الفترة الزمنية الممتدة من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، حيث لم يتمكن الأوروبيون من استعمار قلب القارة السمراء، إلا بعد البدء في استخدام عقار الكينين كوسيلة للوقاية منه، وكعلاج للبحارة والجنود الأوروبيين. وفي العصر الحديث، لا تعتبر الملاريا فقط من الأمراض المرتبطة بالفقر، بل إنها هي ذاتها أحد الأسباب الرئيسية خلف فقر العديد من الدول والشعوب، وعائق رئيسي ومهم أمام جهود التنمية الاقتصادية في كثير من مناطق العالم. ورغم أن المناطق الاستوائية هي الأكثر تأثراً بالتبعات الاقتصادية للملاريا، إلا أن هذا التأثير السلبي يمتد حتى إلى المناطق الباردة، التي تتمتع ببعض الفصول الدافئة خلال السنة، ليس فقط في الدول الأفريقية الفقيرة، بل أحياناً حتى في الدول الصناعية الغنية. فالمعروف والثابت، أن الملاريا، كانت أحد العقبات الرئيسية أمام التطور الاقتصادي للولايات الأميركية الجنوبية، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. ويمكن ببساطة إدراك حجم التأثير الاقتصادي للملاريا، من خلال مقارنة سريعة للناتج القومي الإجمالي بين الدول التي تنتشر بها الملاريا، والدول التي لا يوجد بها المرض، حيث تتمتع الدول الخالية من الملاريا، بناتج قومي إجمالي، يبلغ في المتوسط خمسة أضعاف الناتج القومي للدول المتوطنة بها الملاريا. وحتى على صعيد معدلات زيادة الناتج القومي للفرد، وبالتحديد خلال 25 عاماً في الفترة الممتدة من 1965 إلى 1990، نجد أن معدلات نمو الناتج القومي للفرد في الدول الخالية من المرض خلال تلك الفترة، بلغ في المتوسط 2.4 في المئة، وهو ما يعادل ستة أضعاف معدلات نمو الناتج القومي للفرد في الدول المتوطن بها المرض، والذي بلغ 0.4 بالمئة فقط. وأمام فداحة الثمن الإنساني للملاريا، وبقية الأمراض المنقولة عن طريق البعوض، وتبعاتها الاقتصادية، وما ينتج عنه من تأثيرات اجتماعية، وربما سياسية أحياناً، يمكننا أن نتفهم لماذا ينظر الكثيرون لهذه الحشرة التي لا يزيد وزنها عن 2.5 مليجرام، ولا يزيد طولها عن 16 مليمتر، على أنها كانت دائماً أحد القوى المؤثرة في مسار ومجريات التاريخ البشري خلال الأزمنة والعصور المختلفة، وربما أحد أهم تلك القوى، وأكثرها وقعاً وتأثيراً على مقدرات الإنسان.