أثيرت أسئلة في الأشهر الأخيرة بشأن ديمومة توجه الولايات المتحدة نحو إعادة التوازن تجاه آسيا، لاسيما أن إلغاء رحلة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المنطقة أثناء تعطل عمل الحكومة الفيدرالية الخريف الماضي كانت له تكلفة كبيرة عززت من الشكوك، والتي لم تنمو إلا بعد أن تطلبت تحديات السياسة الخارجية الملحة قيادةً أميركيةً في الشرق الأوسط وأوروبا. ورغم ذلك، لا تزال إعادة التوازن إلى الأولويات والموارد الأميركية تجاه آسيا هي الاستراتيجية الصحيحة، إذ أن إعادة التوجيه لا تنطوي ضمناً على العزوف عن الحلفاء في المناطق الأخرى أو التخلي عن التزاماتنا في ربوع العالم. لكن ما تمثله إعادة التوازن إلى علاقاتنا هو العزوف عن جهود الحرب في الشرق الأوسط وجنوب آسيا التي هيمنت على سياسات وموارد الأمن القومي الأميركية على مدار العقد الماضي، والتوجه صوب المنطقة التي تمثل فرصة كبيرة جداً للولايات المتحدة. وعلى أية إدارة أميركية أن تضمن أن لا يعرقل تعاقب الأزمات وضع الاستراتيجيات طويلة الأمد، لذا في بداية فترته الأولى، وجّه أوباما فريق أمنه القومي إلى تقييم التوقعات والتركيز على القوة الأميركية في أنحاء العالم. وتوصلت الإدارة إلى أن الولايات المتحدة كانت قد أصبحت غير ممثلة بشكل كبير في آسيا ومنطقة المحيط الهادئ على الأصعدة الدبلوماسية والعسكرية والتجارية وفيما يتعلق باهتمام صنّاع السياسات. وعليه، بدأنا تطبيق استراتيجية إعادة التوازن منذ الوهلة الأولى، فكانت أولى رحلات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بعد توليها المنصب إلى آسيا، الأمر الذي لم يفعله أي وزير خارجية أميركي منذ عام 1961. وبدأ قرار إعادة التوازن من الاعتراف بدور الولايات المتحدة الأميركية الحاسم في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية في آسيا. ولولا الاستثمارات الأميركية على مدار سبعة عقود في التدفق التجاري الدائم وحفظ السلام، لكانت آسيا أقل أمناً وازدهاراً وحرية. وفي الوقت الراهن، تجعل النزاعات على الأراضي، والنزعات القومية، وتغير دينامكيات تداول السلطة، والتهديد الكوري الشمالي.. كلها تجعل من التواجد الأميركي شديد الضرورة. وقد قررت الإدارة أيضاً أن مستقبل كل من الولايات المتحدة وآسيا بات أكثر ارتباطاً، لاسيما أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ تشمل أكثر من نصف سكان العالم، وتنتج ما يربو على نصف الإنتاج الاقتصادي العالمي، كما أنها المآل الأكبر للصادرات الأميركية وموطناً لعدد من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم. واستراتيجية إعادة التوازن تنطوي على جهود شاملة تتضمن كافة مقومات القوة الوطنية الأميركية، إذ تتضمن تعزيز التحالفات والشراكات وتدشين خطط اقتصادية يمكنها دعم الازدهار المتزايد في آسيا وتقوية الإصلاحات الديمقراطية والحفاظ على علاقات مثمرة مع الصين.. حيث تحرز الولايات المتحدة تقدماً ملحوظاً على هذه الأصعدة كافة. ولاشك في أن الالتزام الأميركي تجاه أمن آسيا أساسي وعميق، حيث تعمل الولايات المتحدة على تحديث تحالفاتها وتعزيز قدرات المنطقة على ضمان سلامة الإبحار ومواجهة الكوارث الإنسانية. وحتى في ظل عدم اليقين بشأن موازنتها الدفاعية، تتجه الولايات المتحدة إلى زيادة نصيب أصولها البحرية في منطقة المحيط الهادئ إلى 60 في المئة من الأسطول العالمي بحلول عام 2020. ومن شأن زيارة الرئيس أوباما إلى المنطقة الأسبوع الجاري أن تعزز العناصر الأساسية في استراتيجية إعادة التوازن، ففي شمال شرق آسيا، ستؤكد على أهمية تحالفاتنا الجوهرية مع اليابان وكوريا الجنوبية. وفي ماليزيا والفلبين، ستبرز التركيز الأميركي الجديد على جنوب شرق آسيا، والذي يمثل تكتلا اقتصادياً مهماً ونشطاً يضم 600 مليون نسمة. وعندما يصل إلى اليابان وكوريا الجنوبية، على الرئيس أن يقتفي أثر جهوده الأخيرة الرامية إلى تخفيف التوترات القديمة بين الدولتين، خصوصاً أن الخلافات بين الدول الثلاث تعيق قدرتها على معالجة التحديات الأمنية المشتركة بينها، بما في ذلك التهديد الذي تمثله كوريا الشمالية. لكن إعادة التوازن أكثر من مجرد زيادة الأصول العسكرية، فهي تضع تأكيداً أكبر على الدبلوماسية والتجارة، ومن ثم يكمن جوهر إعادة التوازن الاقتصادي في «الشراكة عبر الأطلسي»، والتي تعتبر أهم اتفاق تجاري قيد التفاوض في الوقت الراهن. ومع إزالة القيود التجارية ومواءمة القوانين، فإن اتفاق «الشراكة عبر الأطلسي» من شأنه ربط عشرات الاقتصادات في آسيا والمحيط الهادئ ضمن إطار تجاري واستثماري ضخم يغطي نحو 40 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وسيعود على الولايات المتحدة بدخل سنوي يناهز 78 مليار دولار. ورغم ذلك، فإن أهم أهداف اتفاق «الشراكة عبر الأطلسي» تعتبر استراتيجية، خصوصاً أن هذا الاتفاق من شأنه تعزيز الريادة الأميركية في آسيا، وإلى جانب المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة في أوروبا، يضع الولايات المتحدة في مركز مشروع عظيم ألا وهو صياغة القواعد التي ستحكم الاقتصاد العالمي على مدار القرن المقبل. ويمكن للدول أن توقع على هذا الاتفاق المفتوح شريطة التزامها بمعاييره الفائقة، والتي ستعمل على تعزيز انتشار الأسواق الحرة والمبادئ الاقتصادية الليبرالية. وفي النهاية، يجب أن تواصل الولايات المتحدة السعي لإقامة علاقات بناءة مع الصين، وقد وصف البعض إعادة التوازن بأنها استراتيجية تهدف إلى احتواء بكين. وللولايات المتحدة قدر كبير من الخبرة في الاحتواء، لكن علاقة اقتصادية سنوية مع الصين بقيمة 500 مليار دولار لا تحاكي هذه الاستراتيجية. والحقيقة أن الرؤية الأميركية لآسيا، والتي ترتكز في الأساس على الاستقرار والانفتاح الاقتصادي والتسوية السلمية للنزاعات واحترام حقوق الإنسان، تمثل البيئة الملائمة لنهوض الصين. ويتطلب توفير هذه البيئة من الولايات المتحدة أن تحافظ على تواجد قوي وعلى القدرات اللازمة لتلبية التزاماتها تجاه حلفائها، والانخراط بشكل دائم مع بكين وتوضيح أنها ستعارض وترفض بشكل دائم استخدام القوة في النزاعات على الأراضي. وعبر الالتزام بهذه المبادئ، يمكن للولايات المتحدة المساعدة على ضمان أن لا يُعرّف القرن الحادي والعشرين في آسيا بالصراع وإنما بالأمن والرخاء. ------ توم دونيلون مستشار الأمن القومي الأميركي من 2010 إلى 2013 محورية آسيا لأميركا في القرن الـ21 ------ يُنشر بترتيب خاص مع «خدمة واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»