لا يمكن لأي مواطن ينتمي إلى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية إلا أن يشعر بالسعادة والرضا مع كل خطوة باتجاه التقارب وتجاوز أجواء الخلاف بين دوله. وننظر جميعاً إلى جهود المصالحة بكثير من التقدير لكل من شارك فيها، ولا‏? ?نزال? ?نرى? ?في? ?الدبلوماسية? ?الشخصية? ?المستندة? ?إلى? ?تقاليد? ?ثقافية? ?عميقة? ?في? ?دول? ?الخليج? ?العربية? ?آلية? ?سياسية? ?فاعلة? ?لتجاوز? ?ما? ?يعرض? ?من? ?اختلاف? ?أو? ?تباين? ?في? ?وجهات? ?النظر.? ?وعلى? ?الرغم? ?من? ?ذلك،? ?فإن? ?هناك? ?في? ?واقع? ?الحال? ?ما? ?يجعل? ?سعادتنا? ?هذه? ?مشوبة? ?بالقلق،? ?ويمنعنا? ?من? ?أن? ?نمضي? ?في? ?التفاؤل? ?إلى? ?الحد? ?الذي? ?نرجوه،? ?ويُجبرنا? ?على? ?التمهل? ?في? ?إعلان? ?عبور? ?الأزمة? ?التي? ?خيمت? ?على? ?سماء? ?العلاقات? ?الأخوية? ?بين? ?دول? ?مجلس? ?التعاون،? ?وذلك? ?بالنظر? ?إلى? ?تجربة? ?دول? ?المجلس? ?مع? ?السياسة? ?القطرية? ?وعدم? ?التزامها? ?بما? ?يتم? ?الاتفاق? ?عليه.? هذا هو الإطار الذي نرى من خلاله الاجتماع الوزاري الذي احتضنته الرياض في 17 أبريل 2014. وإذا كان انعقاد الاجتماع نفسه تطوراً إيجابياً بعد ما بدا من انسداد الأفق أصلاً أمام الوساطات والمصالحات، فإن البيان الصادر عقب الاجتماع يُعطي انطباعاً بأن المصالحة مرهونة بخطوات طال انتظارها من جانب قطر، واستحقاقات لم تعد تحتمل ما درجت عليه الدبلوماسية القطرية من مناورات والتفافات. تهدد السياسة القطرية الأمن الوطني لشقيقاتها من دول مجلس التعاون بصورة لم يسبق لها مثيل، وهو ما أدى إلى اتخاذ القرار غير المسبوق بسحب السفراء، ولاسيما في ظل ضغوط إقليمية ودولية وتحولات تجعل السياسة الخارجية القطرية لغماً يمكن أن ينفجر في المنطقة في أي وقت، وتغيير هذه السياسة هو المحك. إننا ننظر بقلق إلى تصريحات الدكتور خالد العطية، وزير الخارجية القطري، في 10 مارس 2014، والتي قال فيها: "أؤمن إيماناً قوياً بأن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها إخواننا من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين لا علاقة لها بالأمن الداخلي لدول مجلس التعاون"، كذلك يساورنا القلق من قوله في المناسبة نفسها - الذي نقلته عنه قناة "الجزيرة" - إن "سياسة بلاده الخارجية تسير وفق مبادئ بينها استقلال قرارها، وأن قطر مستمرة في هذا المسار الذي تسير فيه منذ سنوات". وما لم يكن الدكتور خالد العطية والسياسة القطرية مستعدين للخروج من هذه الدائرة المشؤومة، فإن جهود المصالحة، مع الأسف، لن يُكتب لها أن تؤتي ثمارها. لا يتعلق الأمر باستقلال القرار السياسي القطري حتماً، فدولة الإمارات العربية المتحدة أكثر من يحترم استقلال القرار في كل الدول، وكذلك تفعل شقيقتاها اللتان شاركتاها خطوة سحب السفراء. وليس خافياً أن دولاً في مجلس التعاون تتبع سياسات خارجية قد لا تكون متفقة مع ما تراه دول المجلس -على سبيل المثال- أكثر ملاءمة للمنطقة ولتوازنات القوى فيها، ولكن ذلك لم ينقص يوماً من تقدير دولة الإمارات ودول المجلس الأخرى لها، وإن اعترضت على هذه السياسات أو نبهت إلى ما تراه بشأنها في إطار الأخوة والتنسيق المشترك. والفرق الكبير أن سياسات هذه الدول بقيت بعيدة بدرجة كبيرة عن سقف تهديد الأمن القومي، وكانت تدور في إطار رؤية معينة للمصالح والتكاليف، وتستجيب للمخاوف والأسئلة التي تطرحها الشقيقات الأخريات في المجلس إلى حد تعديلها في بعض الأحيان. كما أن قادة هذه الدول لم يلجؤوا قط إلى التعهدات التي لا يتم الوفاء بها، ولم ينكصوا يوماً عما تم التوافق عليه، ووفَّقوا دائماً بين مقتضيات حرية التحرك التي تحتاجها كل دولة على حدة وفقاً لظروفها، ومقتضيات الانتماء إلى تكتل سياسي أكبر يمنح المنضمين إليه كثيراً من عناصر القوة والفاعلية والتأثير في السياسة الدولية، ويوفر لهم فرصاً سياسية واقتصادية لا حدود لها. وليس اختلاف وجهات النظر بين دول مجلس التعاون بالأمر الطارئ، وفي قضايا حساسة مثل الخلافات الحدودية على سبيل المثال، فقد عولجت هذه الخلافات على مدى عقود بحكمة وهدوء، على الرغم من تعلقها بمفهوم السيادة. ومع أن كل دولة ترى لنفسها حقاً في قطعة ما من الأرض، فقد كان لذلك دوافع تتعلق بـ"المصلحة" المفهومة من كل طرف تجاه الآخر، بمعنى أن دوافع الخلاف كان لها ما يبررها حتى لدى الخصوم. أما أن يكون الأمر محض مقامرات تهدد الأمن والسلم وتُنذر بالفوضى والاحتراب، على النحو الذي تفعله قطر، دون مصلحة واضحة أو مفهومة، فهو ما استوجب الرد الحازم. ربما يمكننا فهم جزء من المشكلة في تصريحات الدكتور خالد العطية التي اقتبسنا أجزاءً منها، إذ يقول فيها: "قطر اختارت ألا تبقى على هامش التاريخ.. لقد قررت الاضطلاع بدور كبير في الشؤون العالمية، والتواصل مع الدول الأخرى". هذه العبارة تعكس نزوعاً مبطناً إلى "التعاظم" والوقوع في فخ "الدور التاريخي"، وهو نزوع مدمِّر أحياناً، كما رأينا في نماذج كثيرة لقادة سيطر عليهم وهم أنهم "شخصيات تاريخية"، فانتهوا بأنفسهم وبشعوبهم إلى مصير مأساوي. إن مقتضيات البحث عن "العظمة التاريخية"، تتعارض في كثير من الأحيان مع مقتضيات تحقيق مصالح الشعوب، وهي المهمة المفترضة للرؤساء والقادة في العالم المعاصر. ومن الضروري لقطر أن تراجع مفهومها عن "البقاء على هامش التاريخ" إذا أرادت أن تجنب نفسها وتجنب المنطقة مشكلات هي في غنى عنها، وأن تعلم أن القرارات المعتدلة والمتزنة والحسابات المتعقلة الهادئة هي ما سيضمن لها أن تكون في "مركز" التاريخ وليس على هامشه، بما ستحققه من استقرار وتنمية وتطور، أما مواصلة لعبة المغامرات لإشباع شعور "العظمة التاريخية"، فقد يُؤدي بقطر وبشعبها إلى مصير أسوأ بكثير من "البقاء على هامش التاريخ"، والتاريخ نفسه هو الذي يقدم هذا الدرس، فليقرأه من شاء. تتحقق مغادرة هامش التاريخ فعلاً، بالحرص على تماسك مجلس التعاون، إذ يمكن لدول المجلس أن تواجه التحديات بوصفها كياناً متماسكاً يمتلك أوراقاً سياسية واقتصادية ونقاط قوة تجعله لاعباً مؤثراً ومسموع الكلمة. ويستلزم ذلك أن تحافظ دول المجلس على أمانها واستقرارها السياسي الذي يتعرض لتهديد جدي بفعل السياسات التي تمارسها قطر، والتي يبشرنا الدكتور خالد العطية بأنها ستستمر، لذا فإن المصالحة مرهونة أولاً بتحول حقيقي في الأفكار التي تنطلق منها السياسة القطرية، وأن تدرك خطرها على قطر نفسها قبل أن يكون على مجلس التعاون ودوله، ويلي ذلك تحول حقيقي وملموس في الممارسات والسياسات. ستبقى المصالحة هشة ما لم توقف قطر دعمها لإرهاب جماعة "الإخوان المسلمين"، واستضافتها لمن يدعمون الفوضى والأعمال الإرهابية في بلدانهم، ويستخدمون منابر المساجد في الدوحة لتوجيه الإساءات وإهانة الرموز في دول الخليج. ولن تتم المصالحة المرجوة طالما واصلت قطر تحويل إعلامها إلى منصات للتحريض والتشاتم والفتنة والشقاق، وتغذية العنف ومدّ طاحونة الدم الدائرة بمزيد من زيت الكراهية والطائفية والتعصب. لدينا ما يُقلق، لأن التحركات القطرية خلال الشهر الماضي كانت تميل إلى مواصلة لعبة المناورة، بإطلاق التصريحات المتشددة كما فعل الدكتور خالد العطية، وتحريك المأجورين على وسائل التواصل الاجتماعي لتغذية أجواء الفتنة والمواجهة، والقيام بجولات لشراء مواقف مدفوعة الأجر تذكي حدة الخلاف، والتلويح بتحالفات مع قوى إقليمية لا تخدم سياساتها أمن الخليج واستقراره. لدينا ما يقلق، لكن لدينا أيضاً أملاً في أن تكون الرسالة قد وصلت واضحة إلى الدوحة بأن باب العودة إلى الصف الخليجي مفتوح إذا أوقفت سياساتها التي وصلت بالعلاقات مع شقيقاتها إلى مرحلة القطيعة، وأن الطريق إلى الخروج الحقيقي من هامش التاريخ هو مؤازرة الجهود الخليجية الساعية إلى ضمان الأمن والاستقرار، وتحقيق التنمية والرخاء للشعوب.