تبدو مظاهر إجهاض العقول في محاربة المبدعين الشبان، أدباء ومفكرين وعلماء بل ومهنيين وفنيين و«أسطوات» بطرق عديدة مثل منع النشر، ضيق إمكانيات البحث العلمي، الرقابة على الفكر، إلغاء المؤتمرات ومظاهر النشاط الجماعي، تقليص منابر الرأي ووسائل التعبير حتى يتقوقع الشبان على ذواتهم، ويجتروا أدبهم وفكرهم وعلمهم لأنفسهم دون أن يجدوا منفذاً لهم في العالم الخارجي. فيضمرون ويعجزون، ويعيشون في مجتمع يسوده جيل الكبار على مدى أكبر من نصف قرن، فهم الرواد والمريدون، يخشون المنافسة تستراً على عيوبهم. يصبح المبدعون الشبان موظفين بالهيئات العامة، يجلسون على مكاتبهم أو في بيوتهم، فالأمر سيّان، ويقضون الساعات الطوال، بين الحضور والانصراف في العلاقات الاجتماعية وذكر سير الآخرين. ومن ينزوي منهم يكتب الأبحاث الطوال للترقية أو للتاريخ، توضع في الأدراج. فإذا ما حاول واحد أو أكثر أخذ زمام المبادرة، والتحرك بطاقاته الخاصة وئدت محاولته في مهدها، ووضعت أمامه العراقيل حتى ييأس ويتحطم. ثم قد يفرز المجتمع قيماً جديدة لهم لامتصاص طاقاتهم تعوضهم على رأسها قيم التسلط والإدارة. فيوضع البعض منهم في السلطة والإدارة حتى يكون الصعود البيروقراطي في المناصب الإدارية من أجل سلطة أكبر -لا من أجل علم أكبر- مطمح العلماء. ولما كانت السلطة في مجتمع متخلف قد توحي بالأثرة والتسلط، وكان المنصب وسيلة للصعود الاجتماعي، ينشأ التنافس على السلطة وعلى المناصب الإدارية والإحباط لكثرة العرض وقلة الطلب. فبدل أن يتحد العلماء ويعملوا معاً في خلق العلم يتصارعون على المناصب، وبدل أن يعمل المفكرون معاً قد يتناحرون على الإداريات، وبدل أن يكون المبدعون فريقاً يتفرقون شِيعاً. ولما كانت المناصب الإدارية تتبعها درجات مالية فقد يتحول التنافس على السلطة إلى صراع من أجل لقمة العيش، ويتلهّى الجميع في لعبة الكراسي الموسيقية وحساب المدخرات، وفرْق المرتب، واستبدال المعاش انتظاراً لحسن الختام. وكلما ازداد الغلاء ازداد التنافس وكأن الضائقة المالية مقصودة بالمبدعين حتى يتقاتلوا من أجل قوت الحياة اليومية، ويتركوا العلم. ومع ضياع كرامة العلماء لا يحدث خلق أو إبداع. فإذا ما استطاع بعض المبدعين الصمود، ورفض هذه القيم الجديدة التي قد يفرزها لهم المجتمع فإنه يسهل إيقاعهم في المخالفات الإدارية وخرق القوانين إذا ما حاولوا التحرك والعمل، وتحويلهم إلى مجالس التأديب والحكم عليهم باللوم أو التأديب وأحياناً الفصل والحرمان حتى يسأم الإنسان العمل في وطنه ويكفر بأداء الواجب. ومعروف أن المبدع دائماً ما يلجأ إلى المضمون دون الصورة، وأن من مظاهر التخلف تغليب الصورة على المضمون كما يظهر ذلك في البيروقراطية. وقد ينشأ الصدام بين القوى الإبداعية للعلماء والأدباء والمفكرين الشبان وبين بعض اللوائح والقوانين والنظم الإدارية. والمبدع في لحظة الخلق قد لا يفكر في قانون أو لائحة، والمسؤول في لحظة الإدارة قد لا يفكر إلا في القوانين واللوائح التي يصدرها ويلزم بها العاملين طوعاً أو كرهاً، عن حسن نية أو سوء نية! فتفتر العزائم، وتضعف الهمم، وقد ينال العالم جزاء سنمار. فإذا استطاع المبدع ترك الدنيا لأصحابها، وعكف على العلم، وترك المناصب لأهلها، وعزف عن السلطة، وحاول تأصيل فكره أو أخذ موقف أو نقد موروث أو إعادة بناء علم فإنه سرعان ما قد يُتهم بالغرور أو التعالُم في أحسن الأحوال. وهنا يتحول إبداعه إلى مناجاة للنفس أو بالأحرى إلى مواساة للنفس، يتأمل غربته عن الناس ويقارنها بغربة الناس عنه. وقد تبدو نتائج «إجهاض العقول» في الداخل في مزيد من هجرتها إلى الخارج لمن يريد لإبداعه أن يستمر وأن ينفع به أي وطن ما دام وطنه الأول قد حاصره وأسر روحه. وهناك وبعد مدة قصيرة حيث الإمكانيات العلمية غير المحدودة، وتقييم الفرد طبقاً لقدراته الإبداعية، والمجالات العديدة المفتوحة لأكبر قدر ممكن من الباحثين، هناك يبرز المبدعون، ثم تنقل صحفنا وأخبارنا: جراح القلب الأول في العالم مصري، عالم الفضاء الأول مصري، مهندس الذرة الأول مصري، دون ذكر لأوضاع هؤلاء العلماء عندما كانوا في جامعاتنا، وكيف تم إجهاض عقولهم، وإحباط هممهم. ثم يأتون إلى الوطن في مؤتمرات سنوية أو في مهمات قصيرة لتعليم العقول المجهضة وللتعامل مع أحدث الأجهزة، ولإجراء أدق الجراحات، ولإعطاء النصائح والتوجيهات، وقد يصبحون مستشارين علميين للسلطة، وتظهر صورهم على الصفحات الأولى. ولا أحد يدري أن عقل مصر المجهض في الداخل قد أبدع في الخارج، وأن يأتي العون من الخارج خير من الاعتماد على الجهد الذاتي. تنزف الأمة من جهود أبنائها، وتجهض عقول مواطنيها ثم تعيش بعد ذلك على نقل الدم منهم إليها، وكنا أحوج إلى اختصار الطريق بدلاً من أن نميت أنفسنا ثم نحييها. أما العلماء الصامدون بالداخل الذين يؤثرون الاستمرار في المعاناة دون الحلول السريعة السهلة في الهجرة فهم يتمزقون، وتستنزف طاقاتهم. هؤلاء هم الذين يكونون علامات ملهمة ونماذج للأجيال من بعدهم. فيهم ذرات أمل لا تنتهي، ومن خلالهم تظل روح الأمة سارية، لا تأسرها حبائل الاستعمار الحضاري للشعوب التاريخية. وكلما قوي الصمود ازداد التحطيم واشتد الحصار. قد ينتهي البعض إلى الجنون العقلي حسرة وكمداً، فجأة وبلا مقدمات، أو العزلة التامة لا يرى أحداً ولا يراه أحد، ولكن يشير الناس إليهم، ويتمنون لهم الخير إن كانوا من الأحياء أو يطلبون لهم الرحمة إن كانوا من الأموات. إن قوة الإبداع لا تعرف الكتمان بل تقفز من وراء الأسوار أو ترتطم بالصخور. وقد نسمع عن موت الأدباء أو جنون الفلاسفة أو الاكتئاب النفسي عند الفنانين أو عزلة الكُتاب أو التنفيس عن النفس بالانشغال بالتجارة وبتربية الدواجن بدل تربية ثقافة الشعوب. وفي النهاية يكون المبدع هو الخاسر، ويكون الإبداع شهادة العصر. فإذا ما استمرت محاولات فك الحصار وقع اليأس وشاعت روح الهزيمة بعد فشل محاولات الصمود الفردية، وبالتالي تنجح الهيمنة الحضارية للغرب في امتصاص روح الأمم وابتلاع ثقافتها وضياع خصوصيتها ودخولها في أنماط استهلاكية خالصة تلك التي أفرزها الغرب ويحاول تصديرها بعد أن ثبت له فشل مشروعه القومي: مزيد من الإنتاج والوفرة لمزيد من الاستهلاك والنهم لمزيد من السعادة والرفاهية، وقلب أنماط الشعوب التاريخية واستبدال قيمها، تلك التي عرفت بدياناتها ومذاهبها وأيديولوجياتها. يريدون لها أن تقلب قيمها كما حدث في الغرب وبالتالي تتحول باسم الثروة وباسم الرفاهية إلى تحليل مادي للمجتمعات الذي على أساسه تقوم الاديولوجيتان المعاصرتان المتصارعتان، فتغفِل الشعوب التاريخية مصادر قوتها في روحها وقيمها ودياناتها وتراثها. ويؤمّن الغرب مستقبله بعد أن فقد قواه الذاتية وبعد أن خدّر باقي الشعوب التاريخية.