لم تعد أفريقيا التي باتت مثار اهتمام المراقبين والباحثين عن الفرص حول العالم، تلك القارة المنسية التي تتخبط في حروبها اللامتناهية، بل أصبحت، وفقاً للصحفية الأميركية النيجيرية «دايو أولوباد» في كتابها «القارة المشرقة.. انتهاك القواعد وإحداث التغيير في أفريقيا المعاصرة»، مكاناً يعج بالفرص، ليس فقط للمستثمرين الأجانب الباحثين عن أسواق واعدة وإمكانات جديدة، بل أيضاً لأبناء القارة أنفسهم الذين يسعون لقلب الصورة القاتمة. فبالإضافة إلى ما تزخر به القارة من موارد طبيعية ليس أقلها الغاز الطبيعي والنفط اللذين يتم اكتشاف احتياطيات مهمة منهما، هناك أيضاً سواعد أبنائها وقدرتهم على الإبداع وتجاوز الصعوبات. ولعل ما يشجع على هذا التفاؤل الذي تبثه الكاتبة بشأن مستقبل القارة، مستويات النمو المتصاعدة في السنوات الأخيرة، وبروز أفريقيا في صدارة اهتمام القوى الغربية، فخلافاً لمناطق أخرى من العالم تعيش على وقع اضطرابات سياسية وتنافساً بين الدول الكبرى مثل ما يجري في أوروبا الشرقية من صراع بين روسيا والغرب، ومشكلات الربيع العربي في الشرق الأوسط وغيرها، تعود أفريقيا لتحتل حيزاً مهماً في أجندة العالم لما قد تمثله من بديل محتمل لمصادر طاقة تعوض تلك التقليدية التي تحوم حولها الاضطرابات والقلاقل. لذا، وحتى تحتفظ أفريقيا ببريقها ويستعيد أهلها ثقتهم بأنفسهم، تحاول المؤلفة ترميم الصورة بما يبعد عنها القتامة والتخلف ويقربها من الإشراق والتفاؤل، فأفريقيا تضم عدداً من الاقتصادات التي تعد الأسرع نمواً في العالم، كما يعيش فيها أكثر من مليار من المستهلكين تتسابق الشركات لاسترضاء أذواقهم، والأكثر من ذلك تقول المؤلفة إن هذه المكتسبات التي حققتها أفريقيا على مدى السنوات الماضية لم تأتِ بفضل السخاء الغربي، أو المساعدات التي يمنحها للدول الفقيرة كما يعتقد البعض، ولا تحققت بسبب التزام أفريقيا بتعليمات صندوق النقد الدولي، ولا حتى بفضل الحكومات الأفريقية نفسها التي غالباً ما ينخرها الفساد وانعدام الكفاءة، بل هي نتيجة الجهود الذاتية التي يبذلها المواطنون الأفارقة في بلدانهم، وحصيلة تجاربهم اليومية لتأمين لقمة العيش. فبعد أن حظي الأفارقة بنصيبهم من التعليم، ومنهم من هاجر إلى الخارج استكمالاً لدراسته، يعود هؤلاء اليوم إلى بلدانهم للاستثمار والاستفادة من خبراتهم، وتستشهد الكاتبة في هذا المجال بغينيا التي حققت قفزة نوعية خلال ربع القرن الأخير، إذ تمكنت من مضاعفة ناتجها المحلي الإجمالي بالتزامن مع الإصلاح السياسي والانتقال السلمي للسلطة. هذا التحول الذي تشهده القارة السمراء بعيداً عن الطابع الرسمي للحكومات والجهود الدولية لتقديم المساعدات والمنح، يستدعي تعاملاً مختلفاً مع الأفارقة، يستهدفهم مباشرة بدل الهياكل والمؤسسات الحكومية التي ثبت فشلها، إذ تقول «إن إحدى المشكلات الأساسية في العلاقة بين العالم وأفريقيا هي تفضيل التعامل مع الحكومات، أو بين المؤسسات الرسمية، في حين أن التفاعلات الأكثر حيوية والأهم من الناحية الاقتصادية تتم بين الأفراد وعلى صعيد غير مركزي»، لذا تأتي أفضل الحلول لمشكلات أفريقيا المتعددة من خلال المستويات المحلية التي يبدع فيها الناس حلولهم ويبتكرون طرقاً ووسائل غير تقليدية لمعاجلة الإشكالات المتراكمة، ولا يمكن التعويل على بروكسل، أو واشنطن لتقديم البدائل التي غالباً ما تكون نظرية ومنفصلة عن الواقع المعيش للأفارقة. ففقط في أفريقيا يعمل طبيب النساء في حاويتين أُدمجتا لتتحولا إلى ما يشبه العيادة يستقبل فيها مرضاه، أو تلجأ أسرة في كينيا إلى استصلاح قطعة أرض مهملة لزراعتها والتعيش منها.. ولأن مثل هذه الحلول والكثير غيرها تتطلب مثابرة وصبراً أمام القوانين الحكومية، تقول الكاتبة، فإنه لا بأس من انتهاك بعض القواعد أحياناً التي تعقد حياة الناس في أفريقيا وتحول دون تحسينها. لكن مما تغفله المؤلفة في عرضها المتفائل حول إمكانات أفريقيا وقدرات أبنائها، أن بعض الإشكالات الأساسية قد لا تنفع معها حلول ذاتية مثل توفير التعليم للملايين من الأفارقة، وتأمين الماء الصالح للشرب، وتزويد الناس بحاجاتهم الغذائية الأساسية، كما أن الدور الرسمي والحكومي الذي سعت للتقليل من شأنه ما زال ضرورياً في ظل الحاجة إلى المشاريع المجتمعية الكبرى التي لابد للدول من التعبئة لها والإشراف عليها لإخراج المجتمعات من تناقضاتها، وإحداث التغيير المنشود في حياة الأفارقة. زهير الكساب ------ الكتاب: القارة المشرقة.. انتهاك القواعد وإحداث التغيير في أفريقيا المعاصرة المؤلفة: دايو أولوباد الناشر: هوتون ميفلين هاركوت تاريخ النشر: 2014