منذ أن تم تأكيد تعيينه وزيراً لخارجية الولايات المتحدة الأميركية في يناير عام 2013، قضى جون كيري معظم وقته وطاقته في خضم محاولة صعبة ترمي إلى وضع نهاية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر التوصل إلى اتفاق إطار تقوم على أساسه اتفاقية سلام شامل. وفي الوقت نفسه كان عليه أيضاً أن يهتم بالمحادثات النووية مع إيران، وبالعدوان الروسي الجديد على الأراضي الأوكرانية، إلى جانب المواجهات البحرية في شرق وجنوب الصين بين بكين وجيرانها، فضلاً عن الأزمات الدائرة في العالم العربي، لاسيما الحرب الأهلية الطاحنة في سوريا. وفي ضوء انتهاء عصر المعجزات، يبدو واضحاً الآن أن الفلسطينيين والإسرائيليين غير جاهزين لتقديم التنازلات الضرورية لمواصلة مفاوضات سلام جادة، ناهيك عن اتخاذ القرارات الجريئة اللازمة لحل جذور الصراع والوصول إلى تسوية لإنهائه. وفي يوم الثامن من شهر أبريل الجاري، دافع الوزير كيري أثناء حديثه أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، والتي ترأسها هو نفسه على مدى سنوات عدة، عن سياساته، لكنه أقر بخيبة أمله حيال الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وكان كيري، في حديثة للمشرعين الأميركيين، أكثر وضوحاً بشأن رفض إسرائيل إطلاق سراح المجموعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين في التاسع والعشرين من مارس الماضي، بموجب التزامها المنصوص عليه في اتفاق سابق بهذا الشأن. وقد أوضح كيري قائلا: «لسوء الحظ، لم يتم إطلاق سراح السجناء في يوم السبت الذي كان يُفترض إطلاق سراحهم فيه». كما صرح كيري بأن «الإعلان عن بناء 700 مستوطنة في القدس، كان القشة التي قصمت ظهر البعير». وقد أدى ذلك التصريح من جانب كيري، علاوة على حذره الكبير في توجيه الانتقادات إلى الفلسطينيين، إلى إحداث ضجة في إسرائيل، إذ زعم الإسرائيليون أن وزير الخارجية الأميركي يلقي باللوم عليهم في انهيار المحادثات، مترجِماً تحيزه للفلسطينيين! وفي هذا الخصوص أصرّ الإسرائيليون على أن رفض عباس الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل هو الذي أدى إلى العصف بالمحادثات وحال دون الوصول بالمفاوضات إلى اتفاق معقول يقبله الطرفان. ولا يمتلك أي من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أو رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الغطاء السياسي أو الإرادة السياسية اللازمة لاتخاذ القرارات الضرورية بهدف السماح بحدوث تقدم ملموس في مفاوضات «السلام». وبالمثل، يبدو الآن أن هناك حالة من التأرجح والحيرة داخل إدارة الرئيس باراك أوباما، فيما يتعلق بعملية السلام، على الرغم من الرحلات الكثيرة التي قام بها وزير خارجيته كيري إلى المنطقة. وفي هذه الأثناء، لا يبدو أن ثمة مؤشرات على أن أوباما نفسه لديه نية الانخراط بعمق في المفاوضات، لاسيما على ضوء انتخابات التجديد النصفي المقبلة في الكونجرس في نوفمبر المقبل، إضافة إلى المحادثات الدائرة بين مجموعة الدول «5+1»، والتي تضم الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا إلى جانب ألمانيا، من جهة وإيران من جهة أخرى، بشأن البرنامج النووي الإيراني. ويدرك الرئيس أوباما أنه إذا ما توصلت مجموعة الدول الغربية إلى اتفاق مع طهران بحلول نهاية العام الجاري، فإن مثل هذا الاتفاق لن يكون مقبولا على الأرجح لدى إسرائيل، وفي مثل هذه الحالة سيحتاج أوباما إلى استخدام كافة صلاحياته من أجل السعي إلى ثني إسرائيل عن اللجوء إلى سياساتها أحادية الجانب، والتي يمكن أن تشمل عملا عسكرياً ضد مواقع نووية إيرانية. وتعلم إدارة أوباما علم اليقين أن ممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل فيما يتعلق بـ «عملية السلام» و«الملف النووي الإيراني» في عام الانتخابات، سيكون أمراً صعباً وخياراً محكوماً عليه بالفشل، لذلك فمن الأفضل ترك أحد ذينك الأمرين إلى العامين الأخيرين في رئاسة أوباما. وفي مقدمة المخاوف المتعلقة بعملية السلام، هناك احتمالية واضحة لتفاقم الأزمة في شرق أوروبا بسبب السياسات الروسية تجاه أوكرانيا إذا ما استمر التدهور هناك باتجاهه الحالي، خصوصاً بالنظر إلى أن مشاركة روسيا في مجموعة «5+1» ضرورية بشكل كبير، كما أن دور موسكو في المحاولات الرامية لحل الأزمة السورية، رغم اختلافها مع الموقف الغربي، يمثل خياراً لا مفر منه. وعليه، إذا قررت روسيا أنه لا مناص لها من التدخل بقوات عسكرية لحماية «الأوكرانيين الذين يتحدثون الروسية في شرق أوكرانيا»، فإن التوقعات تشي بأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لن يجدا بداً من فرض عقوبات اقتصادية شديدة على موسكو، الأمر الذي من شأنه أن يفضي بوضوح إلى ردود فعل روسية قوية قد تشمل احتمال قطع إمدادات الغاز الطبيعي عن كل من أوكرانيا وبقية دول أوروبا الأخرى التي تعتمد على الغاز الروسي. وفي حين أنه من المرجح أن يخرج الغرب من مثل هذه المواجهة في وضع أقوى اقتصادياً، وذلك على ضوء الضعف الهيكلي للاقتصاد الروسي والفساد المستشري في جوانبه، فلا يبدو أن هناك حداً للأساليب التي يمكن أن تنتقم بها موسكو من الغرب، بما في ذلك إنهاء التعاون بشأن الملف الإيراني، والموافقة على منح نظام الرئيس السوري بشار الأسد مزيداً من الأسلحة المتطورة. ولعل هذا هو بالتحديد السيناريو الذي يجعل الجميع قلقين بشأن الأوضاع في أوكرانيا، وهو السبب في أن الأزمة الأوكرانية باتت الآن محوراً رئيساً في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسية الخارجية في كل من واشنطن وبروكسل وموسكو. وعلى الرغم من أن المكاشفة بشأن أوكرانيا وأوروبا الغربية لا تشير إلى احتمال اندلاع «حرب باردة» جديدة، فإنها حتماً ستغير بشكل ما موقف الغرب اللطيف تجاه روسيا. وسيتطلب تغير الموقف الغربي بالتأكيد إعادة تقييم أفضل لحالة الإذلال الشديدة التي تعرض لها القادة الحاليون في روسيا مع تفكك الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1991، والتي يصعب نسيانها، وخصوصاً بالنسبة لمؤسسات تشعر بالفخر مثل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية في موسكو، والتي هي بالتأكيد تفكر في الانتقام واستعادة الأمجاد الغابرة.