يبدو أن العالم العربي الذي كثيراً ما يسهب في الحديث عن وحدته وتماسكه يعيش اليوم حالة من التشرذم والانقسام غير مسبوقة، بعد أن خسرت دول أساسية فيه دورها التقليدي على الساحة الإقليمية، وتراجع تأثيرها في المشهد السياسي والاقتصادي كقوة استراتيجية فاعلة. فهذه الدول التي شهدت قبل ثلاث سنوات هبات شعبية أطاحت الأنظمة اعتقدت بعض نخبها أن مفعول الثورات سيكون معدياً للجميع، ولن يظل أحد بمنأى عن تغيراتها الكبرى التي بشر بها بعضهم، لكن بعد مرور هذه السنوات تبين أن تلك التوقعات المفرطة في حماستها كانت مجافية للصواب، وأن العدوى لم تنتشر، بل ظلت حبيسة الدول التي طالتها القلاقل السياسية، وما ترتب عنها من صعوبات اقتصادية. ولعل ما أثبتته الثورات العربية منذ انطلاقها عام 2011 أن العنصر الوطني والعامل القطري مازال المحدد الأول في التحليل الجيوسياسي، بصرف النظر عن حديث العولمة المتواتر عن تبادل الأفكار وانتقال التيارات السياسية العابرة للحدود، فما شهده العالم على مدى السنوات الثلاث الماضية لم يكن «ربيعاً عربياً» يُجمل دول المنطقة جميعاً، وينطبق عليها بنفس المقدار والكيفية، إنما كان ربيعاً خاصاً بكل دولة على حدة مع اختلاف في الأوضاع بين جميع الدول العربية، لكن وفي المقابل أيضاً، أثبت التطورات والأحداث أنه من كان يعتقد بأن دولاً بعينها ستظل بمنأى عن التغيرات والمطالب السياسية في حدها الأدنى على الأقل كان مخطئاً. وإذا كان القمع الهائل للمطالب الشعبية في سوريا مأساوياً بكل المقاييس، إلا أنه مع ذلك لا يمكن الحديث عن استثناء عربي فيما يتعلق بالحركات العالمية والتوجهات الكبرى، مثل فقدان الدولة احتكارها على تدفق المعلومات، وصعود قوة الرأي العالم، باعتباره ملمحاً أساسياً من ملامح أزمنتنا الحديثة. وإذا كان العالم العربي قد تأخر قليلاً في تفاعله مع التيارات العالمية ورياح التغيير التي هبت على مناطق أخرى، فإن الأمر لا يتعلق بأي قصور ثقافي، أو حضاري يسم العرب دون غيرهم، بل هو راجع إلى أسباب تاريخية واستراتيجية من قبيل خيانة المطالب العربية بالاستقلال بعد الحرب العالمية الأولى، ونكوص الغرب عن تعهداته بإنشاء دولة عربية كبرى، ثم هناك الصراع العربي الإسرائيلي المزمن، وأخيراً تداعيات الحرب الباردة ورهانات النفط في المنطقة. ويبدو أن دول الخليج العربي خرجت من الاضطرابات الأخيرة التي ميزت المنطقة العربية سالمة وبأقل الخسائر بالنظر إلى إمكاناتها الاقتصادية المهمة، وأيضاً استقرارها الاجتماعي اللافت، بحيث كرست تلك الدول نفوذها المتصاعد في الإقليم، بعدما تراجع حضور الدول التقليدية التي كانت تلعب دوراً وازناً في الماضي، مثل العراق الذي لم يتعافَ بعد من حرب 2003 التي دمرت أركان دولته، وأشعلت فتيل الصراع الطائفي والتنابذ المذهبي، فيما تترنح ليبيا أكثر فأكثر على شفا الدولة الفاشلة التي لم تقم لها قائمة منذ إطاحة القذافي، أو سوريا التي تعيش أحلك أيامها في ظل الحرب المستعرة والعنف المتصاعد، بل وانسداد آفاق الحل السياسي، وحتى في حال توقف الحرب بسوريا سيبقى سؤال نهوضها مجدداً قائماً بعد كل الدمار الذي لحق بالبلد والخراب الذي حل بها. ولئن كان الأمر في مصر أقل منه في سوريا، إلا أن البلد ما زال بعيداً عن الاستقرار السياسي المنشود في ظل توسع العمليات الإرهابية التي تستهدف الجيش والشرطة. وفي مقابل هذا المشهد العام المثير للقلق لا يخلو الأمر من بارقة أمل تلوح من تونس، فرغم كل التوقعات بانهيار الوضع في البلد على غرار بقية دول «الربيع العربي»، ورغم عمليات الاغتيال السياسي التي طالت وجوهاً بارزة في المشهد الداخلي، وبصرف النظر عن محاولات السلطة خنق الحريات في مرحلة من المراحل، استطاعت تونس أن تتجاوز فترتها الحرجة، وتؤمن قدراً معقولاً من الاستقرار الذي سيهيىء المجال لتحقيق نمو اقتصادي وتقليص البطالة. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى تمسك التونسيين بالمسار السياسي حتى في ظل احتدام الخلافات والتباينات والإصرار على تحييد الجيش مهما كان. وبسبب التداعيات المتباينة لـ«الربيع العربي» من قُطر لآخر، فقد جاء التفاعل العربي مختلفاً، فعلى الساحة السورية على سبيل المثال، ورغم توافق الدول العربية، وتحديداً دول الخليج، على دعم المعارضة، إلا أنهم افترقوا في موضوع الجهات الأحق بالدعم، وهو اختلاف ينعكس أيضاً في الموضوع الإيراني، بحيث تخشى دول أكثر من الأخرى إعادة إدماج النظام الإيراني في المنظومة الدولية، والاعتراف له بالنفوذ الإقليمي ، فيما لا ترى دول أخرى ضرراً في إدماج إيران بالمنطقة، على أن يكون ذلك مراقباً ومحسوباً، وقد شاهدنا كيف انفجرت التناقضات بين دول مجلس التعاون الخليجي في التحرك الأخير إزاء قطر، لا سيما فيما يتعلق بموقفها تجاه الأحداث في مصر. لكن رغم هذه التباينات في المواقف والتصورات السياسية التي تقسم الدول العربية تبقى هناك قضية واحدة تحظى بالإجماع، مهما كانت محاولات التهميش والطمس، متمثلة في القضية الفلسطينية، فلئن كان الهم الوطني للشعوب يظل طاغياً على ما سواه من القضايا الخارجية، إلا أن استفحال الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل ومراوحة الحل لمكانه دون بوادر تسوية في الأفق يثير استياء الشعوب العربية كافة ويوحدها في مواقفها المعارضة للاحتلال الإسرائيلي ،سواء كانت تلك الشعوب في المغرب العربي، أو المشرق، أو في الخليج. فالقضية الفلسطينية، على ما يبدو، ذات طبيعة عابرة للحدود القطرية الضيقة، مجسدة بذلك حلم التوافق والوحدة الذي استعصى في مواضيع أخرى بسبب تنافر المصالح وتضارب التصورات بين الدول العربية.