خلال أقل من شهرين، انعقدت بالعالم العربي خمس ندوات أو مؤتمرات فقهية، بينها واحد في دولة الإمارات، وآخر في قطر، واثنان في السعودية، وواحد في عُمان. وفي حين ركزت الندوات الأربع الأولى على المشكلات الحاضرة، من العنف والإرهاب، وإلى مشكلات التطرف الديني، وقضايا إدارة الدين، فإن الندوة الفقهية العُمانية الثالثة عشرة بعنوان: «فقه المشترك الإنساني والمصالح» تعمل على مستقبل آخر للفقه والدين ودورهما في المجتمعات والعالم. لقد ذكرتُ المنهج الفقهي في العنوان، لأشير إلى الفروق الظاهرة بينه وبين المنهج أو المناهج الأصولية أو الاعتقادية. وهي النزعات والمناهج التي سادت في العقود الثلاثة الأخيرة فأدت إلى الاشتباك بين الدين والدولة، وإلى انفجار الدين في الدول والمجتمعات، وتمكين الإقليميين والدوليين من التدخل لصالح الطغيان القائم باعتباره ملاذاً من التطرف والإرهاب! لماذا حصل الاشتباك بين المتشددين والدول في الأصل؟ وأين كانت المؤسسة الدينية؟ في صراعات الحرب الباردة، وعلى حواشيها، ظهر معسكران عربيان، أحدهما مُوال للولايات المتحدة، والآخر للاتحاد السوفييتي. وهذه العقائدية الاستقطابية تبعتها حروب ثقافية من الطرفين، فدخل الإسلاميون بالتحالف مع بعض الأنظمة (الولايات المتحدة) في صراع باسم الدين ضد الشيوعية. وعلى مشارف حصول هذه العملية (أواسط الستينيات وما بعدها) كانت أطروحة «الدولة الإسلامية» لدى الأصوليين هؤلاء تتجه للاكتمال، وهي أطروحة تقول بالحاكمية والنظام الكامل وتطبيق الشريعة. ولأن ذلك كله اتخذ طابعاً عقائدياً بسبب العقائديات السائدة في الحرب؛ فقد نشبت صراعات بين الطرفين سادتْها العقائديات: من العقائدية أو الحتمية الاشتراكية أو حتمية الحل الاشتراكي، إلى حتمية الحل الإسلامي! وهكذا ظهرت الجماعات المسلحة أو الجهاديات من جهة، وازداد عنف الأنظمة من جهة ثانية. وبين هذين الطرفين ضعُفت المرجعيات الدينية، وبرز الحزبيون الإسلاميون. أما المراجع الدينية فضعُفت لأن الإسلاميين ابتزوها بعض صلاحياتها في التعليم والفتوى، أما الحزبيون فأفادوا من ثوران الجهاديين باعتبار أنفسهم معتدلين، وأصحاب مرجعية سلمية. وما استطاعت سلمية الأزهر إثبات نفسها، لأنها بدت في عيون الناس عاملة مع السلطات، ومتساهلة في الوقت نفسه مع الجهاديين! وكان لابد من خطوة أخرى لكي يبدو الحزبيون الإسلاميون مألوفين للفئات الوسطى في المجتمع. وقد استطاعوا ذلك في الثمانينيات بمصر عندما عملوا على مقولة أن تطبيق الشريعة ضروري لاستعادة الشرعية. بيد أن ذلك لا يجعل من الدولة دولة دينية، لأن «الشريعة» يمكن تقنينها بحيث تصبح قوانين مثل القوانين السائدة في العالم. وقد حصل ذلك في عمل جيلين من الحزبيين والعلماء القريبين منهم. ولذا فإن حكم الشريعة صار بمثابة حكم القانون لا أكثر ! ولا حاجة للارتياع منه، وبخاصةٍ أن هذا الفريق ما استخدم العنف ظاهراً في السبعينيات والثمانينيات! وبالطبع ما توقف التوتر بين الدين والأنظمة ببقاء الإسلاميين تحت مظلة النظام. فقد كانوا يريدون الاستيلاء على السلطة، ويعملون كل ما بوسعهم لذلك. وبالطبع أيضاً أن الشريعة ليست قانوناً، ولا يمكن تحويلها إلى قوانين. فالشريعة هي الدين، ولها وظائف غير وظائف القوانين. فالدين «يتدخْلَنُ» لدى الأفراد، إذا صح التعبير، ولذلك يبقى وينتشر ويزدهر، فإذا تحول إلى قوانين قامعة، كان ذلك أدعى إلى تكاثر خصومه، وانصراف الناس عن هذا التأويل له! وقع الدين إذن بين الجهاديين والتنظيميين والعسكريين الوارثين. فحصلت التفجرات التي تحدثنا عنها، والتي ما تزال ملتهبة في سوريا وليبيا والعراق والسودان، وأقطار أخرى. وهذا معنى المؤتمرات التي تنعقد هنا وهناك وهنالك، والهدف: تهدئة الثوران بالتحول من العقدي إلى الفقهي، والنظر في كيفية إدارة الدين، بما يوقف الدم النازف، والتهجير، وخراب العمران! لقد فكرتُ في كتابي الذي يصدر قريباً بعنوان: «أزمنة التغير.. الدين والدولة والإسلام السياسي» بثلاث خطوات نظرية وعملية لإخراج الدين من بطن الدولة، وصَونه في أزمنة التغيير. الخطوة الأولى تتمثل في الإقبال على إعادة بناء المؤسسة الدينية التي ضربتها السلطات العسكرية، وضربها الأصوليون. وإعادة البناء تعني العودة لممارسة مهامها بكفاية عالية في التعليم والفتوى والعبادات والإرشاد العام. ويحتاج هذا الأمر للخروج من آثار المرحلة السابقة، وتعيين الكفاءات، وتأمين الإمكانيات والإدارة. فالمؤسسة الدينية السنية ليست مقدسة. لكنها كانت عبر العصور تدير الملف الديني، ونحن اليوم في أمس الحاجة إليها لاستعادة الدين من أيدي الحزبيين والجهاديين. وهي تحتاج إلى إعادة بناء، لأن أكثرها تخرب وضاعت بنيته في سوريا والعراق والسودان وتونس والجزائر. وبقيت بنية المؤسسة سليمة أو مقبولة في مصر والمغرب والسعودية. فنحن محتاجون لإعادة بناء المؤسسات لكي تتمكن من القيام بمهامها دونما عائق. أما الخطوة الثانية، فهي التصدي لعمليات تحويل المفاهيم، والتي أنجزها الإسلاميون عبر ستة عقود، فصار الإسلام ديناً ودولة. وصار النظام السياسي ركناً من أركان الدين، بالإضافة للحاكمية وتطبيق الشريعة، والدولة الإسلامية.. إلخ، كأن المسلمين ما عرفوا الدين قبل حضور حضراتهم! فلابد من نهوض فكري باسم الدين، يضع الأمور في نصابها على كثرة ما سيواجهه الناقدون والمحررون للدين من العمل السياسي، ومن العقائديات المصنوعة. هناك خطوة ثالثة مشتركة بين الدولة والمؤسسات الدينية: المؤسسات الدينية تعمل على الخروج من العقائديات، وعلى إعادة بناء الكوادر والكفاءات وذوي الإحساس الرسالي تجاه الإسلام ووجهه الداخلي والخارجي، وإدارات الدولة تعمل على إقامة أنظمة وممارسات الحكم الصالح. ذلك أن الآمال الشعبية بالدولة شبه الدينية، تزايدت، بسبب أنظمة الطغيان العسكري والأمني في بلدان عربية رئيسية عبر عدة عقود. فإذا تصحح الملف السياسي، فسيكون ذلك مسهلا للإصلاح الديني. ولذا فإن لقاءات العلماء ومؤتمراتهم في هذه الظروف، ضرورية للتفكير وإعادة النظر، والتأمل في المخاض الهائل الذي تمر به أمتنا وبلداننا. www.ridwanalsayyid.com