ثمّة أسطورة قديمة العهد نسبياً تفيد بأن من شروط قوتنا، كعرب أو كمسلمين أو كأبناء «عالم ثالث»، أن تضعف بلدان الغرب وأن تعاني عوارض الهرم والهزيمة والانهيار. ذاك أن بؤس المصير للغربيين هو مقدمة لانتصاراتنا التي تعود علينا بالمجد والسؤدد المضمونين. ولئن كان هذا الغرب الملعون يعني، في زمن الاستعمار البريطاني- الفرنسي منذ عشرينيات القرن العشرين، دولتي بريطانيا وفرنسا خصوصاً، فإنه منذ نيل الاستقلالات، لاسيما منذ أواخر الستينيات، صار يعني أساساً وحصراً الولايات المتحدة الأميركية. وفي هذا السياق أصبح مصطلح «إمبرياليّة»، ومن بعده مصطلح «شيطان أكبر»، مجرد وصفين حصريين لتلك الدولة. وتلك الأسطورة التي قُدمت بوصفها قناعة فائضة الصواب، تشكلت على ضوئها أحزاب وتيارات قومية وإسلامية ويسارية شعبوية كان كل واحد منها يسمي ذاك الغرب اسماً مستقى من ترسانته الإيديولوجية الخاصة. لكنّ الأمر لم يقتصر على الأحزاب والتيارات العديدة المذكورة، إذ شمل أيضاً تكتلات دولية أو إقليمية، سياسية أو اقتصادية، تمتد من تجمعي بلدان «كتلة عدم الانحياز» و«الحياد الإيجابي» في الخمسينيات والستينيات إلى مجموعة دول «البريكس» في وقتنا الراهن. وما لبث الأمر، خصوصاً مع الثورة الإيرانية، أن تطور من السياسة والاقتصاد إلى الثقافة، فازدهر ما بات يُعرف بـ«الغزو الثقافي» الذي يمارسه علينا الغرب، وبالأخص الولايات المتحدة إياها. والحال أن الغرب يبدو اليوم ضعيفاً بالمعنى المقصود والمرغوب. وهذا ما يلوح واضحاً في سلوكه المتردد حيال المحنة الاستثنائية التي تشهدها سوريا، وقد تمتد إلى عموم المشرق العربي، كما في رد فعله المتذبذب والقريب من العجز حيال قيام روسيا الاتحادية بضم شبه جزيرة القرم إليها بعد فصلها عن دولة أوكرانيا. وقد بات معلوماً أن رئاسة أوباما الموصوفة عن حق بالتردد والانعزال، إنما تلخص عناصر ضعف مؤكد في قلب الواقع الغربي نفسه، بينها الأزمة المالية والاقتصادية التي لم تنحسر كلياً حتى اليوم، وبينها أيضاً التجارب المرة لحربي أفغانستان والعراق والأكلاف التي تربت عليهما من دون عائدات إيجابية تُذكر على الأميركيين وعموم الغربيين. لكنْ من الذي يستطيع فعلياً أن يستفيد من هذا التراجع الغربي من أجل أن يبني ما هو أفضل وأشد تقدماً لبلده وللعالم؟ فروسيا، مثلاً، ليست مؤهلة لتلك المهمة الكبرى بسبب محدودية إمكاناتها وقدراتها الذاتية، خصوصاً اقتصاداتها التي لا تزال مرهونة بمدى ارتفاع أسعار النفط والغاز، في ظل إسهام هامشي جداً في اقتصاد الخدمات المعلوماتية والاتصالية ما بعد الصناعي. ويضاف إلى ذلك أن نموذج الحكم القائم في موسكو، ممثلاً برئيسها ورمزها الأول فلاديمير بوتين، إنما يجسد خطوة كبرى إلى الوراء قياساً بالنموذج البرلماني والديمقراطي السائد في عموم البلدان الغربية. والشيء نفسه يصح في الصين التي لا يزال يحكمها، على رغم انفتاحها الاقتصادي، حزب واحد هو الحزب الشيوعي، من غير أن يحتل القانون موقعاً أساسياً في تنظيم علاقاتها الداخلية. وهذا فضلاً عن أن نهضتها الاقتصادية البارزة التي تعبر عنها معدلات النمو البالغة الارتفاع لا تزال مفصولة عن الطاقة الإبداعية التي تفتقر إليها، وتحوجها إلى تقليد ما يبتكره غيرها في بلدان الغرب ومن ثمّ إعادة تصديره إلى الخارج. ولئن تفوقت الهند على الصين من حيث نظامها الديمقراطي البرلماني الذي صمد منذ استقلالها في 1947 على رغم كل شيء (أديان، طوائف، لغات، اغتيال زعماء، حروب مع الصين وباكستان)، فهي، مثلها مثل الصين، لا تزال المفارقة الصارخة أن منطقتنا التي تطلق أعلى الصيحات المعولة على ضعف الغرب، وأقصى التهليل بذلك، هي أكثر مناطق العالم تضرراً من هذا الضعف مضطرة إلى أن تكافح الفقر والعوز الشديدين لعشرات السنين قبل أن تستطيع الاضطلاع بأدوار خارجية مؤثرة وفاعلة. وغني عن القول إن شروط القارة الأفريقية للنهوض والإقلاع لا تزال أسوأ كثيراً من شروط الهند والصين، وهو ما يصحّ في اقتصادياتها كما في بناها السياسية ومدى استقرارها الذي تعاود الحروب الأهلية امتحانه مرة بعد مرة. أما دول أميركا اللاتينية، فمدعوة هي الأخرى لأن تقطع أشواطاً طويلة في التنمية الاقتصادية وفي ترسيخ ديمقراطيتها الوليدة التي لم تباشر إقلاعها إلا قبل عقدين فحسب. فحين نصل إلى العالم العربي، لاسيما في هذه المرحلة العاصفة والمضطربة من تاريخه، سيبدو كل حديث عن استفادته من تراجع الغرب أقرب إلى العبث المحض. ففي هذه المناطق والدوائر الإقليمية جميعها، نجدنا أمام خليط يجمع بين ضعف الإمكانات والقدرات وبين ضعف البرامج المعدّة لدخول المستقبل. وهذا، على وجه الإجمال، ما لا يهيئ أصحابه، لا للحلول محل الغرب ولا للاستفادة من إخفاقات الغرب وتراجعاته. وواقع الحال، أن الدول المؤهلة للاستفادة مما يمر به الغرب حالياً هي دول المروق والصلف والتجبر، كإيران وإسرائيل، فيما هدف الأخيرتين من وراء ذلك لا يعدو كونه ابتزاز الغرب وابتزاز المنطقة التي تحيط بهما، وليس بناء مشروع «حضاري» مفيد لشعوبهما وللعالم. ولن يكون من الصعب أن نتبين كيف يحصل هذا الابتزاز الذي يريده أصحابه وسيلة لاكتساب القوة عبر التحايل على القوانين، أتمثل الأمر في التفاوض الراهن حول الملف النووي بين طهران والبلدان الأعضاء في مجلس الأمن ومعها ألمانيا، أم تمثل في المناورات المتواصلة للتهرب من إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تعيش بسلام في جوار الدولة العبرية. ولربما كانت المفارقة الصارخة أن منطقتنا التي تطلق أعلى الصيحات المعولة على ضعف الغرب، وأقصى التهليل بذلك، هي أكثر مناطق العالم تضرراً من هذا الضعف، لأنها هي التي ستدفع أكلاف الابتزازين الإيراني والإسرائيلي. فلا الاستفراد الإسرائيلي بالفلسطينيين ولا الاستفراد الإيراني المحتمل أيضاً خبرين سارّين ومفيدين للعرب. ومع هذا، ترى الكثيرين منا يصفقون لضعف الغرب ويبنون على رمله قصوراً تتداعى في أول امتحان.