في الأسبوع الماضي، توقفت عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبهذه المناسبة، قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري إنه «وقت الخضوع لاختبار الواقع»، في حين أفادت صحيفة «نيويورك تايمز» بأن كيري سيتشاور مع الرئيس أوباما حول ما إن كان ينبغي بذل مزيد من الوقت والجهد، من أجل إخراج المفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني من الطريق المسدود. بيد أنه حتى في حال وافق أوباما على ذلك، فإن المحاولة ستكون في غاية الصعوبة، كما أنها ستتطلب التزاماً غير مسبوق وتعِد بنتائج هزيلة. والواقع أنه هذا تحديداً هو ما ميز مبادرة كيري، حيث تضمنت هذه الأخيرة عرضاً غير مسبوق يتمثل في إطلاق سراح الجاسوس المدان «بولارد» الذي نقل إلى إسرائيل وثائق عسكرية أميركية في غاية السرية. ويقضي «بولارد» الآن عقوبة بالسجن المؤبد، ورغم أن إسرائيل ناشدت عدداً من الإدارات الأميركية السابقة العفو عنه، إلا أن أي رئيس أميركي لم يوافق على النظر في ذلك الطلب، إلى أن جاء أوباما. وفي البداية، بدا مخطط كيري طموحاً على نحو غير معقول في الدعوة إلى اتفاق سلام بنهاية أبريل 2014. وعندما أخذت الهوة التي تفصل الطرفين تتضح على نحو مؤلم، خفض مخطط كيري هدفه الطموح من اتفاق كامل إلى مجرد إطار لاتفاق. ثم عندما أضحى من الصعب تحقيق حتى هذا الهدف المتواضع، أصبحت جهود كيري موجهة فقط للحيلولة دون انهيار المفاوضات. ثم سرعان ما تحول ذلك إلى حوار من أجل مزيد من الحوار فقط. والحال أن مثل هذه النتيجة الهزيلة لالتزام أميركي استثنائي كانت بكل وضوح غير مشرفة، بل مهينة. ذلك أن حتى الهدف المتواضع المتمثل في إبطاء وتيرة بناء المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لم يتحقق. على أن هذا ليس كل شيء. ذلك أن التطور الذي سرّع بتدهور المفاوضات كان هو رفض الحكومة الإسرائيلية الوفاء بالتزامها بالإفراج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين الرازحين في سجون إسرائيلية. ونتيجة لذلك، اعتبر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس نفسه في حل من الالتزام الذي كان قد قطعه على نفسه، بعدم السعي للحصول على عضوية فلسطين في عدد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وأعطى موافقته على القيام بخطوات تذهب في هذا الاتجاه تحديداً. وبعدما وصلت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية إلى طريق مسدود، قال جون كيري إن عليه أن يعيد تقييم أولوياته، واستخلص خلاصة واحدة فقط: أن الطرفين ليسا مستعدين بعد لعقد السلام. ولأول وهلة، يبدو ذلك قوياً ومقنعاً على نحو مخادع. ولكننا حينما نمعن النظر، نجد أن خلاصة كيري ليست سوى واحدة من مجموعة خلاصات ممكنة أكثر قوة وإقناعاً. وعلى سبيل المثال، فإن إحدى الخلاصات القوية والمقنعة هي أن الطرفين لديهما تصوران مختلفان لمفهوم السلام. وبالنظر إلى التفاوت الصارخ في القوة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فإنه سيكون من المفاجئ ألا يسعى الإسرائيليون إلى استغلال تفوقهم لفرض تصورهم الخاص للسلام. فالسلام هنا يعرّف بشكل سلبي في الغالب باعتباره: غياباً لحالة الحرب، وغياباً للاحتجاج، وغياباً للمقاومة. ومما لاشك فيه أنه لو أوقف الفلسطينيون كل أشكال مقاومة الاحتلال، لقال كثيرون في إسرائيل إن السلام مع الفلسطينيين قد تحقق. والحال أن السلام الحقيقي يقتضي بعض الخطوات الإيجابية، مثل الرغبة في دعم المصالحة، وإحقاق الحق وتصحيح المظالم، وبلورة رؤية مشتركة للمستقبل. وفضلاً عن ذلك، فإن الرغبة في تحقيق سلام دائم تتطلب فهماً حساساً لكرامة الطرف الأضعف. ذلك أنه إذا تم تجاهل هذه المبادئ الأساسية، فإن النتيجة ستكون هي الإذلال بدلاً من المصالحة، وشعوراً بالكراهية والرغبة في الانتقام بدلاً من صياغة رؤية مشتركة للمستقبل. إنها عناصر اتفاقية «فرساي» القاسية بعد الحرب العالمية الأولى، وهذه هي البيئة التي مكنت هتلر من الصعود إلى الواجهة كزعيم قادر على معالجة كبرياء بلاده المجروح. ولنتأمل هنا عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة. هل سألت واشنطن نفسها عن أسباب الإخفاقات المتكررة يا ترى؟ لنتأمل ما تهدف مواقف إسرائيل التفاوضية إلى تحقيقه: فالمطلب المتمثل في ضرورة أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل باعتبارها دولة للشعب اليهودي لا يسلب الفلسطينيين حقهم في العودة فحسب، ولكنه يمنح إسرائيل أيضاً رخصة لممارسة كل أشكال السياسات التمييزية الرامية إلى الإبقاء على الطابع اليهودي للدولة. والمطلب المتمثل في نشر قوات إسرائيلية في غور الأردن يسعى إلى تحقيق الأمن على ما يبدو، غير أنه من الواضح أن هذا الأمن ليس من النوع الذي يتم الحصول عليه من تقاسم رؤية مشتركة للمستقبل، وإنما هو نوع من الأمن القائم على الهيمنة والقوة. ذلك الأمن الذي يقوم على الخوف من الإيمان بالسلام وغيابه. إن من الواضح أن طرفي النزاع لديهما تصوران مختلفان جداً لنوع السلام الذي يريدان من المبادرة الأميركية أن تروج له. وهذا هو ما يحكم على المبادرة بالفشل في كثير من الأحيان. وعلاوة على ذلك، فإن عملية السلام يشوبها عيب قاتل: ذلك أن واشنطن تزعم أنها وسيط نزيه، في حين أنها تدعم الاحتلال والمشروع الاستيطاني، وتوفر له مساعدات اقتصادية وعسكرية غير مسبوقة، وتعرقل بشكل دوري قرارات تندد بإسرائيل وتزيد من عزلتها في المجتمع الدولي. إن السلام الحقيقي يقتضي رؤية مشتركة تقوم على المصالحة وتحركها الرغبة في تحقيق العدالة وتصحيح المظالم. والحال أن عملية السلام الحالية مستمرة في الفشل لأنها تستعمل الإطار المرجعي الخطأ للدفع بتصورات متناقضة للسلام. صحيح أن واشنطن وحدها، وهي الراعي الرئيسي للعملية، تستطيع معالجة عيوب هذه العملية، ولكن ذلك يتطلب شجاعة سياسية استثنائية أثبتت حتى الآن أنها غير متوافرة.