كنت ولا زلت من المؤمنين بأنه لا يمكن للمجتمعات العربية أن تتقدم في مجالات التنمية والإصلاح ومكافحة الفساد ومواجهة الفكر المتطرف وإشاعة القيم الفاضلة، إلا إذا تغيّرت وضعية المرأة فيها، بتفعيل مشاركتها في الحياة العامة، وتمكينها من الوصول إلى المجالس التشريعية، والمناصب القيادية والقضائية. وفي هذه الأيام، ينظم مركز دراسات وأبحاث المرأة بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت، الملتقى السنوي الرابع، حول «المرأة والبرلمان .. الحاضر والمستقبل»، بهدف تسليط الأضواء على التحديات والصعوبات التي تواجه المرأة في الوصول إلى البرلمان. من المهم تشخيص تلك التحديات، ووضع الحلول الكفيلة بتذليل العقبات أمام المرأة في طريقها إلى البرلمان. ويطرح البعض تساؤلات من نوع: ما حاجة المرأة للعمل السياسي؟ ما حاجتها إلى العمل البرلماني؟ وما أهمية وجودها في المجالس التشريعية؟ في تصوري: أنها تساؤلات مغلوطة، لأن التساؤلات الحقيقية التي ينبغي طرحها: ما حاجة مجتمعاتنا إلى عمل المرأة السياسي؟ ما أهمية وضرورة وجود المرأة في المجالس التي تشرع وتراقب؟ بل ما حاجة مجتمعاتنا- أساساً- إلى إسهام المرأة في كافة المجالات: سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتعليمياً وتشريعياً وقضائياً؟ طرح التساؤلات الصحيحة، يمكّننا من الوصول إلى الإجابات الصحيحة. وقديماً حين طُرحت قضية عمل المرأة قال الممانعون: ما حاجة المرأة للعمل مع وجود العائل المؤمِّن لاحتياجاتها؟ اليوم مجتمعاتنا تجاوزت قضية عمل المرأة وجدواه، عندما أدركت أن التنمية لا تقوم على ساق واحدة، كما أدركت أن المجتمعات المتقدمة ما حققت ازدهارها إلا بعد ما تغيرت وضعية المرأة لديها وغيّرت نظرتها إلى المرأة وفعّلت دورها التنموي والسياسي ومكّنتها من كافة المناصب القيادية انطلاقاً من قاعدة «المواطَنة» المتساوية. التشريعات العربية أعطت المرأة حقوقها السياسية كاملة، لكن المشكلة في الممارسة والتمكين والتفعيل. إنها حتى اليوم حقوق نظرية أكثر منها عملية مطبقة. وفي تصوري أن تفعيل دور المرأة السياسي والبرلماني -وهو مشرّع ورقياً- من أشد الضرورات: 1- لا يمكن للمرأة المغيّبة سياسياً وبرلمانياً، والمنتقصة في حقوق المواطنة المتساوية، أن تهيئ جيلا مؤمناً بالديمقراطية والحوار وقبول الآخر وقادراً على الإصلاح. 2- وجود المرأة في الحياة السياسية وفي البرلمان، عنصر ملطف لخشونة الحياة السياسية، ووجودها في البرلمان يحسن الأداء النوعي للنواب ويرقى بلغة الخطاب، ويهذب السلوكيات ويخفف من حدة التأزم المفتعل بين الحكومة والنواب. 3- المرأة أقدر على التعبير عن احتياجات المجتمع ومطالبه في المجالات التي لها احتكاك كثيف بها مثل الطفولة والأسرة والشؤون الاجتماعية. 4- المرأة أقدر على إشاعة القيم الأخلاقية الفاضلة في المجتمع. 5- المرأة أقدر على مواجهة الفكر المتشدد وفكر الكراهية والطائفية. 6- المرأة أقدر على الرقابة ومواجهة مافيا الفساد. 7- وجود المرأة في المجالس التشريعية وفي مراكز صنع القرار لمصلحة المجتمع- أولا- ولمصلحة الرجل- ثانياً- ولمصلحة الأسرة- ثالثاً. 8- المرأة تشكل أكثر من نصف المجتمع، وليس من العدالة والمنطق أن لا يكون لها وجود عادل في البرلمان. والآن؛ ما هي العقبات التي تحول دون مشاركة المرأة في الحياة السياسية ووصولها للبرلمان؟ يُعد «الموروث الثقافي والاجتماعي» المشكك في كفاءة المرأة السياسية من أكبر التحديات، ولا يزال هذا الموروث حاكماً للعقل الجمعي العربي، يشكل توجهات الرأي العام ويكرس في النفسيات والعقليات وفي التركيبة المجتمعية أن العمل السياسي امتياز خاص بالرجل، كونه «القوّام» على الشأن العام المجتمعي، وأن مزاحمة المرأة للرجل في هذا الحق، تجاوز للثوابت الدينية، ومخالف للتقاليد المجتمعية وقلب للأوضاع ومؤذن بعدم فلاح المجتمع، متكئاً على الحديث المشهور «لن يفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة»، في تفسير متعسف ومتحايل بحق المرأة. هذا الموروث له جذوره البعيدة في التراث الذي يصور المرأة ككائن عاطفي شديد التأثر، تحكمه الأهواء، وينقاد للعاطفة، وينخدع بالكلام المعسول، فهي لا تحسن التصرف في المواقف ولا تقدر على اتخاذ القرارات السليمة إلا في ظل ولاية الرجل ووصايته عليها. وقد تعزز ذلك التصور السلبي للمرأة بستة خطابات لا زالت مؤثرة في البنية العامة للمجتمعات العربية المعاصرة: 1 - الخطاب الديني؛ الذي لا زال يصدر فتاوى بتحجيم دور المرأة السياسي والانتقاص من أهليتها السياسية والتحذير من خروجها واختلاطها. 2- الخطاب التعليمي؛ الذي لا يزال يكرِّس وضعاً نمطياً لدور المرأة في المجتمع، يقتصر على أعمال البيت والتربية وخدمة الرجل مقابل أرجحية عقل الرجل وأولويته في المناصب القيادية والإدارية. 3- الخطاب الإعلامي؛ الذي يصور المرأة عبر الأفلام والمسلسلات كمصدر إغواء وفتنة للرجل، لا مهمة لها في الحياة إلا تصيد الرجل أو سرقته من أولاده وزوجته. 4- الخطاب التربوي؛ الذي يعطي الذكر كل الامتيازات بخلاف الأنثى التي عليها أن تكون مطيعة، خاضعة حتى تتمكن من الزواج. 5- الخطاب التشريعي؛ الذي يصور الزواج عقد استمتاع ويربط النفقة باحتباس المرأة ويحرمها من نقل جنسيتها لأولادها إذا تزوجت غير المواطن، وينزع الأطفال من الأم المطلقة إذا تزوجت! 6- الخطاب المضلل؛ الذي لا زال يزيف وعي قطاع عريض من النساء، يصوتن للجماعات التي هي ضد حقوق المرأة ويقفن ضد المرشحات للبرلمان ويسعين لنشر الدعايات السلبية عنهن، وكل ذلك بحجّة الشفقة على المرأة من الزج بها في المعترك الانتخابي وحمايةً لها ولأسرتها. وقد استطاع هذا الخطاب الماكر التسلل إلى عقليات ونفسيات عديدة أصبحت اليوم تحارب ترشيح المرأة للبرلمان. ما العمل إذن لتمكين المرأة سياسياً وبرلمانياً؟ عوامل التمايز والمواريث المتحيزة، راسخة الجذور ومتغلغلة في عمق التركيبة المجتمعية وفي بنيتها: ثقافةً وإعلاماً وتشريعاً وخطاباً دينياً، ولا حل في الأمد القريب أمام القيادات السياسية في مجتمعاتنا إلا «نظام الكوتا»، لأن المراهنة على تغيير الثقافة المجتمعية، تتطلب أجيالا و«نظام الكوتا» أمر أقرته الأمم المتحدة التي قالت: «لا يعتبر اتخاذ الدول تدابير مؤقتة تستهدف التعجيل بالمساواة الفعلية بين الرجل والمرأة، تمييزاً»، ولا يخالف فلسفة ومنطق الديمقراطية. الذين يقولون إن المنافسة الحرّة هي المعيار، يغفلون أن ذلك صحيح في ظل تكافؤ الفرص فحسب، ويكفي دحضاً لهم، أن السويد لا زالت تخصص 46 في المئة من برلمانها للنساء، والدنمارك 38 في المئة، وفنلندا 37 في المئة، وهناك 80 دولة على مستوى العالم تأخذ بنظام الكوتا، فهل نحن أكثر تقدماً منهم؟!