يخطئ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وقادة حزبه الحاكم «العدالة والتنمية» إذا ظنوا أن نتائج الانتخابات البلدية أو المحلية في أي بلد تكفي لقياس اتجاهات الرأي العام تجاه سياسات السلطة المركزية، حتى في حالة تسييس هذه الانتخابات، كما حدث في تركيا الأسبوع الماضي. وسيكون الخطأ فادحاً إذا اعتقد أردوغان أن فوز حزبه في الانتخابات البلدية مجدداً يعني أنه لم يرتكب أخطاء كبرى منذ الإجراءات القاسية التي اتخذها ضد الاحتجاجات الشعبية في الربيع الماضي. فقد تصبح تركيا مرشحة لدخول نفق خطير إذا تمادى أردوغان في ارتكاب مثل هذه الأخطاء، والأرجح أن الخروج من هذا النفق سيكون صعباً إذا لم ينتبه أردوغان للخطر المترتب على أمراض طول البقاء في السلطة. فما أتعسها الدول التي تغوي شهوة السلطة رؤساءها نتيجة طول بقائهم فيها، وما أشقاها البلاد التي لا يعتبر قادتها بما حدث لمن أغوتهم السلطة قبلهم، ولا يستوعبون دروس من كانت نهاياتهم مناقضة لبداياتهم حين وصلوا إلى الحكم. وما أتعسهم هؤلاء الرؤساء الذين لا يعون أن ثمة مساراً واحداً سلكه الحكام الذين يفتقدون المناعة اللازمة ضد غرور السلطة مهما اختلفت التفاصيل عبر الزمان والمكان. هناك نمط عام للرئيس الذي تنتخبه أغلبية الشعب، أياً كان مقدارها، ثم تغويه السلطة فيُضّيع التأييد الذي حظي به، ويضيع هو نفسه ويضل الطريق. ويحدث شيء من ذلك في تركيا الآن. فقد أدمن رئيس وزرائها أردوغان السلطة التي يمسك بها منذ 12 عاماً. وهذه فترة تتجاوز الحد الآمن للبقاء في السلطة دون الوقوع في شرك غرورها والخضوع لشهوتها، وهو الحد الذي يتراوح بين ثماني وعشر سنوات، ما لم يكن الرئيس أو «رئيس الحكومة في النظام البرلماني» قد تم إعداده جيداً منذ وقت مبكر بما يؤهله لتجنب أمراض طول البقاء في السلطة. وكان هذا الإعداد من التقاليد المعمول بها في كثير من النظم الملكية والأميرية، التي تعتبر السلطة خدمة للشعب، وتحرص على توريث هذا المعنى وترسيخه. لكن نظراً لتعذر مثل هذا الإعداد في النظام الجمهوري، فقد اهتدت الدول الديمقراطية التي تأخذ به إلى وضع حد أقصى صارم لولاية الرؤساء. لذلك تنتشر أمراض البقاء في السلطة لفترة طويلة في النظم الجمهورية التي تفتقد التقاليد الديمقراطية الراسخة. كما تمتد هذه الظاهرة إلى نظم جمهورية لا تفتقد التقاليد الديمقراطية كلياً أو جزئياً، لكنها تأخذ بالنظام البرلماني الذي لا يضع حداً أقصى لاستمرار رئيس الوزراء «رأس السلطة التنفيذية في هذا النظام» مادام حزبه يحصل على الأغلبية في البرلمان، الذي يعتبر مركز الثقل في هذا النوع من نظم الحكم. لقد أُصيب أردوغان بغرور السلطة في العامين الأخيرين، فانفرد بها اعتماداً على حلقة ضيقة من الموالين وأهل الثقة. ومن شأن هذا الغرور أن يزّين للرئيس «أو رئيس الوزراء في حالة تركيا» أنه من طينة أخرى غير تلك التي خُلق منها البشر، فيعتبر نفسه فوق الجميع، ويختزل الدولة ثم الوطن في شخصه، ويصبح أي نقد له مساساً بهيبة تلك الدولة أو خيانة لهذا الوطن أو مؤامرة تستهدفهما معاً. وتتفاقم أمراض السلطة حين يستيقظ صاحبها ذات يوم على احتجاجات متزايدة أو انتقادات متصاعدة، في الوقت الذي صار فيه اعتقاده راسخاً في أنه صار فوق أي معارضة أو نقد. وهذا هو ما حدث في تركيا منذ أن اندلعت احتجاجات شعبية لم يتوقعها أردوغان في ربيع العام الماضي، خاصة عندما توسع نطاق هذه الاحتجاجات لتشمل فئات اجتماعية عدة لها مآخذها على كثير من سياساته، وهو الذي كان قد اطمأن إلى أن الإنجاز الاقتصادي الكبير الذي حققه في السنوات الأولى لحكمه يجيز له أن يفعل ما يشاء وقتما يرغب بدون أن يعترض أحد أو يحتج. ولم تمض أسابيع على اندلاع تلك الاحتجاجات حتى فوجئ أردوغان بسقوط سلطة جماعة «الإخوان» في مصر عبر انتفاضة 30 يونيو، وبالتالي انهيار حلمه لإقامة تكتل «إسلامي سياسي» بقيادته يمتد من شمال أفريقيا إلى وسط آسيا. وهكذا تلقى أردوغان ضربتين كبيرتين إحداهما داخلية والثانية خارجية إقليمية، في الوقت الذي كان قد وصل فيه إلى يقين أو كاد بأن الأوضاع دانت له، الأمر الذي عجّل بظهور أمراض طول البقاء في السلطة. فقد بدا واضحاً أنه فقد قدرته السابقة على قراءة الواقع، التي مكنته من التعامل مع مشاكل واجهته في سنوات حكمه الأولى. وما أن يعجز الحاكم عن قراءة الواقع وإدراك حقيقة ما يحدث فيه حتى يتحول إلى إنكاره. وهذه حالة نمطية متكررة في الدول التي يقع حكامها ضحايا غرور السلطة فيتعالون على الواقع ويفقدون الصلة به ثم يعمدون إلى إنكاره. وكان الكشف عن فضيحة الفساد التي تورط فيها عدد من رجاله في ديسمبر الماضي بمثابة ضربة ثالثة أكثر إيلاماً بالنسبة لرئيس وزراء بنى سمعته السياسية على أساس أخلاقي وجعل محاربة الفساد هدفاً سامياً تبناه منذ اليوم الأول الذي تولى فيه السلطة، فضلا عن اعتباره الوسيلة الرئيسية لإعادة بناء الاقتصاد والمجتمع. فقد اعتبر أردوغان الأخلاق سلعته الرئيسية لأن قواعد النظام العلماني التركي التي سعى لتغييرها تدريجياً لم تسمح له بالاتجار في الدين بشكل مباشر، بخلاف ما أُتيح لقادة جماعات وأحزاب «الإخوان» في كثير من دول المنطقة. لذلك كانت الصدمة المترتبة على انكشاف فضيحة الفساد أقوى وأشدَّ مقارنةً بمثيلاتها حين تحدث في حالات أخرى. غير أنه بدلاً من أن يعالج أردوغان تلك الفضيحة بحكمة وتواضع ويعتذر عن تورط حكومته فيها، أبى غروره السلطوي إلا أن يستكبر وينكر الواقع. وبدلاً من أن يترك القانون يأخذ مجراه بالنسبة للمتهمين، ويعتبر ذلك بداية «تطهير» لسلطته، لجأ على العكس إلى «تطهير» الدولة من رجال القضاء والنيابة والشرطة الذين اتخذوا الإجراءات التي ألغاها ضد المفسدين، فضلاً عن مطاردة الإعلاميين الذين ينقلون الحقيقة للناس. ووصل الأمر إلى حجب موقع «تويتر» ثم موقع «يوتيوب» على نحو يكشف عن حالة مفرطة من حالات غرور السلطة الذي يبدو أنه مرشح للازدياد جراّء قراءته الخاطئة لنتائج الانتخابات البلدية وتهديده السافر بسحق معارضيه.