تسود في الدراسات الاجتماعية الغربية أطروحة تستند إلى تجربة التحديث الأوروبية التي قامت على اكتشاف مبدأ الذاتية الذي هو أساس مثل الحرية والنزعة الإنسانية من أجل البرهنة على أن مازق التحول الديمقراطي في العالم العربي الإسلامي ناتج عن غياب مفهوم الذاتية في أبعاده الإنسانية الفردية في النسق العقدي الثقافي المشترك القائم على المطلق الجماعي المفارق الذي لا مكان فيه لهوية ذاتية منفصلة ومستقلة. تلك هي الأطروحة التي يدافع عنها الكاتب الفرنسي - الجزائري « مالك شبل» في عمله البحثي المطول الصادر بالفرنسية بعنوان «الذات في الإسلام» حيث يتحدث عن وعي مستلب في الآخر «الإلهي»، مستنداً إلى التصور الشائع حول ثورة الذاتية في الحداثة الأوروبية التي هي نقطة ارتكاز المنظومة الليبرالية ومدونة حقوق الإنسان. والمعروف أن هذه الأطروحة تعود جذورها إلى تاريخ هيجل للفلسفة (الذي هو في الآن نفسه فلسفة في التاريخ)، باعتباره ربطا بين لحظة الوعي بالذات والمحطة الديكارتية ناعتاً ديكارت بأنه «بطل الحداثة»، وقد بنى الفيلسوفان المشهوران «مارتن هايدغر» «وميشل» على هذا الحكم الهيجلي نتائج جوهرية في تصور الأزمنة الحديثة وفي التحقيب لمسار الفكر الأوروبي. بيد أن الأمر في الواقع يتعلق برهانات نظرية ومجتمعية متمايزة لها خلفيات مغايرة، ولا يمكن أن تُصنف في إطار غائم موحد يعتبر نقطة قطيعة تأويلية حاسمة لا صلة لها بما سبقها. يمكن في هذا الباب أن نميز بين سياقات ثلاثة متمايزة، وإنْ كانت تداخلت وتصادمت في بعض اتجاهاتها: السياق الأول يتعلق بذاتية الإرادة التي هي من مستلزمات الدين التوحيدي القائم على عقيدة الخلق والاصطفاء والتكليف، أي تمايز الإنسان والإله وما يترتب على هذا الانفصال من ثنائية أنطولوجية وأخلاقية، ومن تصور كوني للحقيقة. وإذا كان بعض الفلاسفة المسيحيين حاولوا حصر هذا البعد العقدي من الذاتية في الديانة المسيحية، فالواقع أنه حاضر في كل الديانات التوحيدية، ولعله أقوى في الإسلام الذي بلغ ببعد المفارقة والإطلاق في تصور الألوهية مداه وبالتالي عمق خصوصية وانفصال الذاتية الإنسانية، على عكس الاستنتاج الهيجلي من التجريد التوحيدي في الإسلام، الذي اعتبر أنه يلغي أي إمكانية لتصور حرية الإنسان. السياق الثاني يتعلق بذاتية الوعي التي يعتقد أن ديكارت بلورها مكرساً قطيعة جذرية في نظام المعرفة بنقله من قطبية الوجود إلى قطبية الأنا أفكر ( الكوجيتو) . وكما يبين «الآن دي لابيرا» أحد أبرز مؤرخي فلسفة العصور الوسطى في عمله الموسوعي حول «حفريات الذات»، فإن الموقف الديكارتي لا يتسنى فهمه إلا في إطار الجدل اللاهوتي - الفلسفي الوسيط حول مصدر الفكر الذي كانت الرشدية محركه الدافع. منبع الإشكال هو المأزق الذي واجه فلاسفة العصر الوسيط من المسلمين والمسيحيين بخصوص تصور الإله الفاعل ضمن المقاييس الأرسطية في تصورها للذات بصفتها جوهراً ثابتاً حاملاً لأعراض وبالتالي سلبية غير فاعلة. لا نريد هنا الدخول في تفاصيل الجدل اللاهوتي الذي تمحور حول نقاش الرشديين اللاتينيين مع القديس توماس الأكويني، الذي رفض تصور ابن رشد لاستقلالية العقل عن الذات المفكرة وبلور فكرة الوعي التي هي ربط مثير غير مسبوق بين الجوهر - الموضوع ونقيضه أي الذات الفاعلة، وكان دافعه الأساس إيجاد حب للمشكل اللاهوتي الذي تطرحه الطبيعة المزدوجة للمسيح بصفته إلهاً وإنساناً ( عقيدة التثليث). وعلى الرغم من اختلاف السياق الديكارتي عن الإشكالات اللاهوتية الوسيطة، إلا أن مفهوم «الكوجيتو»، الذي بلوره لحل مشكل وحدة الإنسان ( العلاقة بين الروح والجسد والرد على القول بأن الفكر من خصائص الجسد) له خلفية لاهوتية واضحة وإن نقل من سجل لآخر، ولا يمكن أن نبني عليه نتائج تلقائية في مستوى تصور الإرادة الإنسانية الحرة، وهي الأطروحة التي تأسست عليها منظومة الأنوار. ومن هنا نستنتج أن الذاتية بمعنى الوعي الداخلي (الاهتمام بالذات حسب عبارة فوكو ) ليست اكتشافاً حديثاً وإنما هي لصيقة بالسياق اللاهوتي المسيحي، وهي نمط من أنماط الذاتية طرحت إشكالات متتالية إلى أن وصل نموذج الوعي مداه، وتحول إلى عبء حاول الفكر الغربي منذ نهاية القرن التاسع عشر الخروج منه في مسالك متعددة ، ولذا لا يمكن أن تختزل فيها كل التصورات الممكنة لاستقلالية الفرد وتميزه التي ليست حكراً على الثقافات ذات المنشأ المسيحي. السياق الثالث هو الذاتية الإنسانية بمفهوم التحرر الفردي والجماعي، الذي هو أحد المكاسب الكبرى لعصور الأنوار والثورات السياسية والمجتمعية الحديثة، ومن الخُلْفِ استنتاجه من مقولات عقدية أو نظرية معينة، بل هو حصيلة مسار تاريخي واجتماعي كوني معروف السمات والخصائص. يتعلق الأمر هنا بجانب الهوية الذاتية في بعدها الحركي المفتوح الذي عبر عنه الفيلسوف الفرنسي «بول ريكور» بالهوية السردية، ويعني بها كيف تتشكل الذاتية من خلال التفاعل الحي مع الآخر، وكيف يشكل المسار التأويلي القوة التأويلية الدافعة لصناعة ذات تنتقل من الموروث المفروض إلى الاختيار الواعي المفتوح. ما نريد أن نخلص إليه هو أن إرجاع عوائق التحديث السياسي والمجتمعي إلى رواسب ثقافية في العقيدة الإسلامية أو حتى في المتخيل الثقافي الجماعي ليس سوى مغالطة كبرى، استند إلى قراءة زائفة لسياقات اكتشاف واستكشاف الذاتية في أبعادها المتنوعة المختلفة التي لا تنحصر في الذاتية بمفهومها الفردي القائم على الهوية الداخلية الباطنية ( الأنا غير المتعين بلغة تشارلز تيلور). التحديث السياسي والمجتمعي هو في عمقه حصيلة حركية تاريخية فاعلة، أما الصياغات التأويلية على أهميتها فدورها يكتسي في الغالب طابع الوعي البَعدي.