لاشك أن الجولة الأخيرة التي قامت بها القيادة القطرية إلى عدد من دول المنطقة، أربكت حسابات المحللين والمراقبين، وبسبب التوقيت الحسّاس الذي اختارته هذه الزيارات وما دار فيها، توقّع المراقبون أن هناك قدراً أعظم من السّريّة لم تتمكن الآلة الإعلامية من الوصول إليه، ومن قبيل ذلك ما تسرّب عن انتظار الشيخ تميم بن حمد آل ثان أمير قطر فترة من الوقت في مطار عمّان قبل أن يقرر الملك استقباله، فالملك عبدالله دخل في حرج بالغ بسبب هذه الزيارة المربكة التي توقّع لها الكثيرون أن تكون غلافاً لعرض الأمير رغبته في الوساطة لدى دول التعاون التي تيقّنت قطر بأنها لن تتوانى في إنزالها من على قاطرة مجلس التعاون لو استمرت في احتضانها الجماعات الإرهابية التي تشكّل خطراً لا عليها وحدها، ولكن أيضاً على الأردن التي قد يطلب منها الأمير القطري الوساطة، فموافقة عاهل الأردن على الوساطة تعني منحه ورقة غالية للمرتبطين بالتنظيم «الإخواني» العالمي من أبناء بلاده الذين لا يزال يبذل معهم جهوداً خارقة لإثنائهم عن هذا الطريق الشائك الذي يبيعهم أوهاماً لا يمكن شراؤها بغير دماء شعوبهم وبنية بلدانهم التحتية. وساطة عاهل الأردن في حال صحّت توقعات المراقبين لكونها إحدى أهم أولويات الأمير في الأردن، لا يمكن أن تكون محل ترحيب على الإطلاق، ومن المستغرب أن التنظيم «الإخواني» كان عبر مختلف مواقعه الإعلامية يهلل ويدعم هذه الجولة، خاصة زيارة الأردن، ظنّاً منه أن القرب الجغرافي للأردن من سوريا يجعل هذا البلد قريباً من مرمى نيران «الإخوان»، وهدفاً لتهديد مبطّن، وذلك من قبيل التفكير بأن قادة التنظيم الموجودين في قطر يستطيعون أيضاً تحريك أذنابهم في بلاده لإحداث فوضى تحيل الأمور لسورنة الأردن، وهذه هي الرسالة المبطنة التي حاول التنظيم الإخواني إيصالها إلى الملك عبدالله ظنّاً منه أنّ فحواها ستحمله على تغيير مواقفه، والاستماتة في سبيل تحقيق ما تريده قطر من مصالحة مع دول التعاون التي تربطها علاقات استثنائية مع الملك وبلاده. وتأتي زيارة القيادة القطرية للسودان في وقت لا يمكن أن نقول عنه سوى الحكمة التي تقول «المصائب تجمع المصابين»! فالسودان المتحالف مع قطر يعيش نظامه أصعب فترات حكمه بعدما بدأت الأمور تفلت شيئاً فشيئاً من بين يديه، فقد تم فصل الجنوب ولكن مشاكله زادت بدلاً من أن تنتهي، وحتى الجزء المتبقي من الشمال لا يُحكم النظام كامل قبضته عليه، وقد بذلت قطر جهوداً كبيرة في إطالة عمر النظام عبر تدخلها المباشر بعديد من الاتفاقيات المتناقضة التي دائماً تجعل الحركات المسلحة تتوقف عند حدود المناطق التي تسيطر عليها، خاصة في إقليم دارفور، فقد تسلمت قطر ملف دارفور بالكامل لدرجة أن اللجنة المخصصة لمتابعة وتسلم وإدارة الدعم الذي التزمت به الدول والمنظمات لدارفور تترأسها قطر، والحكومة السودانية مجرد عضو فيها! وحتى حاكم دارفور التيجاني السيسي، لاحظ المراقبون دائماً أنه حينما تحدث مشكلة أو أزمة في دارفور، فإنه يتوجه مباشرة للدوحة قبل الخرطوم، للدرجة التي بات السودانيون يتندرون فيها بإطلاقهم على دارفور «ولاية دارفور القطرية»، وهناك أيضاً المشاريع الاستثمارية الضخمة التي ربطت قطر بالخرطوم، إضافة إلى الاستثمارات السودانية في الدوحة التي تحدثت عنها الكثير من وسائل الإعلام السودانية، وقالت عنها إنها استثمارات سرية للأحزاب الإسلامية والقيادات، وربطتها دائماً بالفساد. السودان يعاني في هذه الفترة ضغوطاً سياسية هائلة، وفتوراً عاماً في العلاقات بينه ودول الخليج، خاصة بعدما اعتلى التنظيم «الإخواني» مصر، وخطابات التحدّي المبطّن لدول المنطقة كافة، خاصة دول الخليج التي أطلقها مرسي من الخرطوم التي حاول جرّها أكثر لصفوف «الإخوان» عندما لوّح بشوكولاته «حلايب وشلاتين»، إضافة لتعالي أصوات الأحزاب الأخرى التي اصطفت بعناد شديد في زاوية المعارضة، وجاهرت في رغبتها برحيله، خاصة بعدما أثبتت الحالة الاقتصادية المتردية عدم قدرته على إدارة البلاد، كما تقول تلك الأحزاب، وبدأ التمرّد يتمدد إلى الجامعات، ويتحول أحياناً لمعارضات شعبية يقوم النظام بقمعها بطرق وحشية، فقتال الجنوب بدد آمال الحكومة في انتعاش اقتصادها عبر واردات ما تضخّه حكومة الجنوب من نفط عبر أراضيها بحرب الجنوب الأخيرة التي شغلت الحكومة والمعارضة بصراع البقاء الذي هو أهم من إنتاج النفط وتوقفه، بل أهم من مختلف مشاكلهما مع الشمال وغيره، ولم يعد للحكومة مورد آخر، خاصة أن الثروة الحيوانية التي تقوم بتصديرها تأثرت مناطقها في دارفور وأطراف كردفان بالحروب وعدم الاستقرار، والذهب الذي اعتمدته الحكومة في التعدين الأهلي انخفضت قيمته، بل وتحدثت وسائل الإعلام عن إعادة شحنة كاملة للسودان، ما يعني أنه أصبح ورقة محروقة، إضافة إلى أن دول الخليج تنظر بقلق للعلاقة السودانية الإيرانية، خاصة مع موقعه الجغرافي المتاخم لمصر وليبيا. هذه المشاكل وغيرها، دفعت بالقيادة القطرية إلى زيارة السودان ظناً منها أن ذلك سيقوي من شوكته، ويدفع باتجاه الحلف الذي أوهمه التنظيم «الإخواني» المتأسلم، بإمكانية قيامه بقيادة الدوحة، ففي حسابات التنظيم أن الدوحة حتى الآن بإمكانها أن تقود حلفاً يتألف من عدد من دول المنطقة لمواجهة كل تداعيات طوفان الغضب الخليجي المنتظر والمتوقع، وقطر تدرك تمام الإدراك بأن أية محاولة بحث عن وساطة لا تعني سوى إهدار للوقت، فالدول الخليجية ستقول للوسيط ذات الشروط التي ستعيده إليها، لو تم الالتزام بها، وهو في ذلك لا يحتاج وسطاء بقدر ما يحتاج إلى أفعال، وفي الوقت ذاته هو يريد حلّاً لا يخسر معه علاقته بتنظيم «الإخوان المتأسلمين»، وهذا مستحيل، غير أن زيارة أمير قطر للسودان رأى فيها المراقبون محاولة بديلة لإيجاد مأوى آمن لأعضاء التنظيم، وللنظام السوداني خبرات كبيرة في هذا المجال، فقد سبق له إيواء بن لادن والغنوشي وعباسي مدني وغيرهم، بل ومنحهم جنسيته الكاملة، وقطر تحتاج لمن يأوي القادة «الإخوانيين»، الذين تعهدت بحمايتهم ولو لحين، لأن الإبعاد سيوفّر جوّا ممتازاً لحوارها مع بقية أعضاء المجلس لاتقاء تداعيات القطيعة، ويمثّل في الوقت ذاته هدفاً استراتيجياً للمرحلة المسلحة التي بدأها «الإخوان» ضد مصر، غير أن السودان بالمقابل تربطه مصالح بدول الخليج، خاصة دولتي الإمارات والسعودية، روابط اقتصادية مفصلية، والدولتان تضمّان عدداً هائلاً من العمالة السودانية، والمغامرة بما تريده قطر التي فقدت الأمل في إيجاد مأوى لقادة التنظيم «الإخواني» المتأسلم في الغرب بعد فتح تحقيقات بريطانية، وتكهنات بفتح أخرى في فرنسا وأخرى كندية، وذلك على خلفية ما تداولته بعض وسائل الإعلام عن خطوات الدوحة في هذا المجال ببريطانيا. تُرى كيف تفكّر قطر بعد هذه الجولة المكوكية المتعبة التي زادت من يأس «الإخوان؟!»