توماس هندريك إلفيس التحدي الأول للأمن الأوروبي على المديين القريب والبعيد يتمثل في المساعي الروسية لخلخلة نظام ما بعد الحرب الباردة توماس هندريك إلفيس، رئيس دولة إستونيا يمثل الاعتداء الروسي على أوكرانيا محاولة واضحة لتغيير نموذج ما بعد الحرب الباردة وخلخلة النظام العالمي المستقر طيلة تلك الفترة والذي كانت من أبرز مقتضياته احترام سيادة الدول وصيانة وحدتها وحرمة الحدود والإيمان بأن العلاقات بين الدول يمكن إقامتها على أساس متين من القيم المشتركة. لكن اليوم وبعد التطورات الأخيرة بتنا أمام حالة من التداعي تهدد بنسف هذا النظام. فالاتفاقيات الدولية ما عادت متماسكة، واستخدام القوة أصبح مشروعاً ومستساغاً، كما أن روسيا وبضمها لشبه جزيرة القرم تكون قد رمت وراء ظهرها القواعد الدولية المرعية وضربت بها عرض الحائط، معيدة العالم إلى المربع الأول، وناسفة النموذج الذي تأسس بعيد الحرب الباردة. الأمر هنا لا يقتصر فقط على موضوع القرم، أو العلاقة المتشنجة بين روسيا وأوكرانيا، بل يمتد إلى التغيرات الحاصلة في مفهوم الأمن الأوروبي وأصول التعاطي بين الدول الديمقراطية وروسيا، فالأحداث الجارية في كييف ودونيتسيك شرقاً، بالإضافة إلى التطورات المتلاحقة في القرم، تضع العلاقة بين المجتمع الدولي وموسكو على صفيح ساخن. ولا تنفع هنا التبريرات والحجج التي ساقتها روسيا لتسويغ احتلال القرم كالقول إنها تدخلت لحماية الأقليات الروسية لأن مثل هذه الذرائع تعيدنا إلى أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية عندما استخدمت ألمانيا النازية الحجة ذاتها لضم إقليم «سوديتنلاند» التشيكوسلوفاكي إلى ألمانيا بدعوى حماية الناطقين باللغة الألمانية. لذا لا بد للقادة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من وقفة شبيهة بتلك التي وقفها تشيرشيل والارتقاء إلى مستوى اللحظة وما تستدعيه من حزم ووضوح وسرعة. وفي هذا السياق يتعين اتخاذ تدابير صارمة على المديين القريب والبعيد، فإذا كان الغرب قد أثبت قصوره في التعامل مع الاجتياح الروسي لجورجيا عام 2008، اعتقاداً من المجتمع الدولي أن الخطوة لن تتكرر ليركن بعدها إلى حياته الطبيعية وكأن شيئاً لم يقع، فإننا اليوم أمام سياسة روسية واضحة تروم مراجعة التاريخ وتُصاغ على أعلى مستوى في الكرملين، ولا يعني الأمر أن نتصرف بارتباك، إنما نتعامل بحكمة وعلى نحو مدروس إزاء محاولة روسيا مراجعة نظام ما بعد الحرب الباردة وتقويض أركانه. وعلى كل حال نحن لن نعيد اختراع العجلة، بل نلجأ فقط إلى الوسائل المتاحة لمواجهة تحديات مشابهة، وهنا يتعين أولا التصرف بحزم داخل حلف شمال الأطلسي، فالمقولة الشهيرة التي تُنسب للسيناتور الأميركي، ريتشارد لوجار، من أن على «الناتو» التحرك خارج مجاله أو التقاعد عن العمل لم تعد قائمة، فمن الواضح أننا اليوم ندور ضمن الجغرافية التقليدية للحلف والمتمثلة في حماية الوحدة الترابية لأعضائه والدفاع عنها، ما يحتم الرجوع إلى أوروبا وتعزيز حضور الحلف داخلها، لا سيما في ظل الهستيريا التي تتملك الإعلام الروسي المناوئ للغرب. ففقط من خلال رد غربي هادئ وحازم في الوقت نفسه، يمكن إعادة قوة الردع لحلف شمال الأطلسي؛ وبعد الإقرار بأن التحدي الأول للأمن الأوروبي على المديين القريب والبعيد ستكون المساعي الروسية لخلخلة نظام ما بعد الحرب الباردة فإن التأكيد على مسؤولية «الناتو» وتعزيز قدراته يجب أن يحتل مركز الصدارة في أجندة قمة الحلف التي ستستضيفها بريطانيا في شهر سبتمبر المقبل. هذا التركيز على دور «الناتو» يجب أن تصاحبه زيادة في استثمارات الدفاع لدى البلدان الأوروبية، على أن تتحول عتبة 2 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي كحد أدنى للإنفاق إلى هدف لجميع أعضاء الحلف، كما أن الحلفاء في أوروبا عليهم أن يعوا الحاجة الملحة لإضفاء المصداقية على حلف شمال الأطلسي ومده بوسائل الردع التي من شأنها إعادة إحياء العلاقات الدفاعية بين ضفتي الأطلسي. لكن وفيما عدا التركيز على المهام الأساسية لحلف شمال الأطلسي وتعزيزها أوروبياً يتعين أيضاً الاهتمام بأوكرانيا نفسها، إذ لا بد أن تفهم روسيا بأن تحركها في أوكرانيا والقرم لن يكون من دون ثمن، ما يعني أنه على الغرب الوقوف إلى جانب الحكومة الأوكرانية سواء من الناحية السياسة، أو من خلال الدعم الاقتصادي المكثف. وعلى أوروبا أن تكون واضحة وصريحة في التزامها تجاه أوكرانيا وتوفير المساندة أيضاً لدول أخرى مثل مولدوفا وجورجيا حتى تطمئن شعوبها إلى أن الغرب لن يتخلى عنها، وأنها لن تكون لقمة سائغة لدى التطلعات الروسية، ولا بد من التأكيد على أن التصرف الذي لجأت إليه روسيا الاتحادية مؤخراً بإصدار جوازات سفر لمن تعتبرهم روساً في القرم بدعوى حمايتهم والذود عن مصالحهم ليس مقبولًا في الأعراف الدولية. فجوازات السفر تظل وثائق للسفر وليس أدوات للاعتداء والتدخل في شؤون الدول، أما الأقليات فلها قانون يحميها ودستور يصون حقوقها دون الحاجة لتدخل خارجي، وأخيراً يتعين على روسيا أن تدفع الثمن لأن المسألة مرتبطة بمصداقية النظام الدولي الذي إذا انهار سنكون أمام فوضى يمكن بموجبها لأي طرف أن يخرق القانون، وهو ما سيؤثر في النهاية سلباً على الأمن والاستقرار الدوليين. وبالتوازي مع ذلك يتعين إعادة النظر في سياسة الانخراط الإيجابي مع روسيا في عدد من المؤسسات والهيئات الدولية أكانت الأمم المتحدة، أو حلف شمال الأطلسي، أو الاتحاد الأوروبي؛ وبعيداً عن حسابات التجارة وخسائر الطاقة يتعين على العلاقة مع روسيا أن تركز أكثر على القيم المشتركة التي لا يمكن تجاوزها، وإذا كان التحالف التقليدي والراسخ بين أوروبا والولايات المتحدة قد نجح في مواجهة تحديات الماضي، فإن تحديات الحاضر تتطلب تحركاً حازماً يقف حائط صد أمام المساعي الروسية لهدم قلاع الحرية في أوروبا الشرقية، فما لم نتحرك بسرعة اليوم لربما حملتنا الأجيال غداً في أوروبا ِوزر التقاعس والتخاذل أمام الأخطار التي تتربص بالقارة العجوز. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»