«بعد ظهر اليوم قرر مجلس شمال الأطلسي تعيين ينس ستولتنبرغ أميناً عاماً لمنظمة حلف شمال الأطلسي ورئيساً لمجلس شمال الأطلسي». جاء ذلك في بيان موجز صدر عن الاجتماع الذي عقده سفراء الدول الثماني والعشرين الأعضاء في «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، الجمعة الماضي، حيث أعلنوا انتخاب رئيس وزراء النروج السابق أميناً عاماً جديداً للحلف، ليخلف الدنماركي «اندرس فوغ راسموسين» في ختام مهمته التي استمرت خمس سنوات. وقد اتفقت دول «الناتو» على اختيار ستولتنبرغ لهذا المنصب، بأسرع من المتوقع، بعد ما تم تداول عدد من الأسماء المرشحة، بينها وزير الخارجية البولندي «رادوسلاف سيكورسكي» ووزير الدفاع البلجيكي «بيتر دو كريم»، بالإضافة إلى ستولتنبرغ الذي حصل على دعم قادة دول الحلف الرئيسية، لاسيما الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا. ويأتي تعيين الأمين العام الجديد فيما يواجه الحلف الذي يحتفل قريباً بالذكرى الـ65 لإنشائه، تحديات جديدة بسبب تفجر الأزمة مع روسيا حول أوكرانيا، والتداعيات المحتملة لمغادرة قوات الحلف أفغانستانَ في أواخر العام الجاري. أما «ينس ستولتنبرغ» فهو سياسي نرويجي في العقد السادس من عمره، عضو «حزب العمل النرويجي» ورئيسه السابق، وقد قاد حكومة بلاده قرابة عشرة أعوام، قبل خسارته الانتخابات العامة في سبتمبر الماضي. وقد وصل أسلاف «ينس ستولتنبرغ» إلى النرويج في القرن السابع عشر، ليستقروا في إقليم «شليسفيغ هولشتاين» الذي كان تحت الحكم الدنماركي شأن أغلب الأقاليم النرويجية في حينه. وقد أبدى «ينس» منذ سن مبكرة اهتمامه بالسياسة وبدأ يتردد على ملتقياتها ويحتك بالساسة والنشطاء اليساريين. وإلى ذلك فهو من عائلة سياسية، إذ كان والده وزيراً للدفاع ووالدته كارين ستولتنبرغ وزيرة للخارجية، وهو نفسه متزوج من الدبلوماسية «إنغريد سشوليرود» ولديه منها طفلان. ولد «ينس ستولتنبرغ» في أوسلو عام 1959، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة «أوسلو والدروف» والثانوي في مدرسة كاتدرائية أوسلو، ثم أدى الخدمة العسكرية الإلزامية في مركز تدريب المشاة التابع للجيش في «أوست أغدر»، ثم التحق بجامعة أوسلو وتخرج في كلية الاقتصاد فيها عام 1987، وحصل على شهادة الماجستير عن أطروحة بعنوان «تخطيط الاقتصاد الكلي في ظل عدم اليقين.. تحليل تجريبي». وعمل ستولتنبرغ كصحفي في البداية، ثم أصبح زعيم المنظمة الشبابية لحزب العمال عام 1985، وانتخب في عام 1990 على رأس الفرع الإقليمي للحزب في أوسلو. وشغل منصب وزير الدولة في وزارة البيئة خلال عامي 1990 و1991، ثم دخل البرلمان النرويجي (سترتيتنج) لأول مرة، ممثلًا لحزبه عن دائرة أوسلو عام 1992. لكنه لم يلبث أن تولى حقيبة الصناعة في الحكومة الثالثة على التوالي للعمالية «جروهارلم برونتلاند»، وحاول تقديم نفسه على أنه «توني بلير النرويج»، وتسلق بسرعة إلى أهم الوزارات. وبعد استقالة برونتلاند في عام 1996، حاول ستولتنبرغ خلافتها في رئاسة حزب العمال، وبدعم منها، بيد أن الغلبة كانت لمنافسه القوي «ثوربيورن ياغلاند» الذي تزعم العماليين وأصبح رئيساً للوزراء، فيما تم تعيين ستولتنبرغ وزيراً للمالية، وهو المنصب الذي شغله حتى 17 أكتوبر 1997 عندما استقالت حكومة ياغلاند، ليصبح حزب العمال خارج صفوف السلطة، وليتولى رئاسته ستولتنبرغ الذي أصبح زعيم المعارضة البرلمانية ورئيس اللجنة التشريعية لشؤون الطاقة. وبعد حجب الثقة عن حكومة «كجل ماجن بونديفيك»، زعيم «حزب الشعب المسيحي»، في فبراير 2000، أصبح ستولتنبرغ مرشح حزب العمال لرئاسة الوزراء، وقد فاز بالأغلبية ليصبح رئيساً للحكومة في 3 مارس من العام ذاته. لكنه سرعان ما تعرض لانتقادات واسعة من جانب حزبه، بسبب السياسات الليبرالية التي انتهجها، لاسيما خصخصة المؤسسات الوطنية والخدمات العامة، وعملية «التحديث» التي أجراها على نظام الصحة العمومية، والتي أضرت بالناخبين التقليديين لحزب العمال. وبالفعل فقد تكبّد الحزب هزيمة شنيعة في الانتخابات التشريعية في سبتمبر 2001، إذ سجل واحدة من أسوأ نتائجه (24 في المئة فقط من الأصوات)، فسقطت حكومته في 19 أكتوبر من العام نفسه، وانقسم أعضاؤه بين ستولتنبرغ الذي مثل يمين الحزب، وبين منافسه ثوربيورن ياغلاند، لكن ستولتنبرغ استطاع الفوز مجدداً برئاسة الحزب في نوفمبر 2002 ليبقى زعيماً له خلال السنوات التالية. واستطاع ستولتنبرغ قيادة حزبه للفوز في انتخابات سبتمبر 2005 (وقد أعيد انتخابه خلالها عن دائرة أوسلو) ضمن ائتلاف الحمر والخضر من الوسطيين والاشتراكيين و«العمال»، ليتولى رئاسة الحكومة مجدداً في 17 أكتوبر من العام نفسه. وأعيد انتخاب ستولتنبرغ في عام 2009 لولاية ثانية كرئيس للوزراء، لكن رغم الاستماتة التي أبداها مع حزبه في انتخابات عام 2013، فقد خسر فرصة الحصول على ولاية ثالثة في رئاسة الحكومة والحزب، فقدّم استقالته في 14 أكتوبر الماضي. ثم أصبح المبعوث الخاص للأمم المتحدة حول تغير المناخ، وترأس فريقها الاستشاري رفيع المستوى بشأن التغير المناخي. وكان ستولتنبرغ قد أصبح منذ نوفمبر 2003 عضواً في الجمعية الأوروبية للتوجيه العلمي التي أسسها «ميشال روكار» و«دومينيك ستراوس كان»، كمنبر لليسار الأوروبي. وعندما تم انتخابه يوم الجمعة الماضي كأمين عام لحلف «الناتو»، ليحل محل راسموسن، كانت خلفيته اليسارية أحد الاعتبارات المهمة في قرار اختياره من قبل الدول المؤثرة داخل الحلف. فقد بدأ ستولتنبرغ مسيرته السياسية في الأوساط الراديكالية المعارضة للحلف قبل أن يصبح مؤيداً للتوافق بين روسيا والغرب. فهو أول أمين عام لحلف الأطلسي يتحدر من دولة حدودية مع روسيا، وقد أقام علاقات جيدة مع موسكو أثناء ترؤسه للحكومة النرويجية.. وهي ورقة مهمة في يده للتخفيف من أزمة القرم التي خلفت أجواء تشبه حقبة الحرب الباردة. لكن إذا كانت الدول الكبرى تريد أميناً عاماً للناتو مستعداً لتقديم تنازلات في سياق الأزمة الحالية مع روسيا، فإن قرارات الحلف ليست أساساً بيد أمينه العام، وإنما يمتلكها المجلس الأعلى للحلف، والذي غالباً ما يساير الإرادة الأميركية في تعريف التحديات وتحديد الأولويات الأمنية للحلف! محمد ولد المنى