تابعت في الآونة الأخيرة العديد من التحليلات السياسية والاستراتيجية للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، ولفت انتباهي أن هناك تصورات تنطلق من أن الولايات المتحدة، كقوة عظمى وحيدة في النظام العالمي الجديد، تعاني حالة من التراجع الاستراتيجي. وفي تبرير هذه الفرضية هناك من يستشهد بمسار الأزمة السورية، فيما يسقط آخرون هذا التصور على ما يعتبرونه خضوعاً أميركياً في أزمتي البرنامج النووي الإيراني، وأوكرانيا. من أبرز السلبيات المترتبة على مثل هذه التحليلات أنها تصنع قناعات وهمية، ربما تقود إلى رسم سياسات غير واقعية، سواء في التعامل مع البيئة الدولية الراهنة ومتغيراتها، أو في تفسير ما يلي ذلك من أحداث وتطورات إقليمية في ملفات مختلفة. النقاشات الدائرة حول تراجع دور الولايات المتحدة ومكانتها ازدادت منذ أن لجأت إدارة أوباما إلى المماطلة في التدخل عسكرياً في سوريا، ثم احتدمت هذه النقاشات في الآونة الأخيرة على خلفية أزمة أوكرانيا، التي دفعت بعض المحللين إلى القول إن هناك حرباً باردة جديدة أميركية-روسية، وإن بوتين وجه «صفعة» إلى الجانب الأميركي، وهذه أمور تنطوي على قدر ما من «التحليل بالتمني» من دون استناد إلى مؤشرات واقعية يمكن رصدها في بناء مثل هذه الرؤى، وهذا لا ينفي، بطبيعة الحال، وجود دلالات عميقة للتفاعلات الدائرة في الأزمة الأوكرانية. بداية، إذا أردنا فهم مسارات الأزمة الأوكرانية فعلينا الاعتراف أولاً بأن الكرملين لم يكن يمتلك خيارات كثيرة في التعامل مع هذه الأزمة، وأن الرئيس بوتين قد دافع عن حائط الصد الأخير في مواجهة التمدد الأطلسي باتجاه تطويق النفوذ الروسي، فأوكرانيا تمس عصب الاستراتيجيات الروسية، بل هي إحدى أولويات الأمن القومي الروسي، وليست مجرد حليف. وبوتين ذاته يدرك، وهو رجل خبير بشؤون الأمن والدفاع، أن كلفة أي قرارات يتخذها في الحفاظ على مصالح روسيا في أوكرانيا تظل أقل بمراحل من الآثار التي ستترتب على التخلي عن أوكرانيا. ثمة تطور آخر تستند إليه التحليلات التي تقول إن هناك تراجعاً استراتيجياً أميركياً عالمياً، وهو إعلان وزير الدفاع الأميركي تشاك هاجل في الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي عن خطة تستهدف تقليص حجم الجيش الأميركي، حيث أشارت تقارير عدة وقتذاك إلى أن الجيش الأميركي، سيصبح، وفقاً للخطة، الأصغر حجماً منذ الحرب العالمية الثانية. ويرى بعض المحللين أن ذلك انعكاس مباشر لضعف مقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على مكانتها ونفوذها العالميين. وهنا ينبغي وضع الأمور في نصابها كي يمكن فهم جوهر المسألة، وأشير في ذلك إلى أمرين مهمين: أولهما يتعلق بأن خطة هاجل ليست طارئة، ولا تعكس تحولاً مفاجئاً، لأن الخطة أساساً قائمة على إحداث تغيير في التكتيكات وليس في الاستراتيجيات، فتقليص حجم الجيش الأميركي تجري المناقشة حوله منذ سنوات مضت، إذ سبق أن تحدث الرئيس أوباما مع الكونجرس في أغسطس 2011 عن تقليص الإنفاق المتوقع على الأمن القومي بأكثر من 450 مليار دولار في السنوات العشر القادمة، ولم تتضمن النقاشات وقتذاك حجم القوات التي سيجري تقليصها كما لم تعالج قضايا محددة متعلقة بالميزانية، وهو ما أتت به خطة هاجل فيما بعد. وأذكر أن وزير الدفاع الأميركي السابق «ليون بانيتا» قد تحدث وقتذاك عن أن الجيش الأميركي سيكون «أصغر وأرشق»، ووعد أوباما بالمحافظة على «التفوق العسكري» للولايات المتحدة في العالم برغم الاستقطاعات اللازمة في ميزانية الدفاع مع إعطاء الأولوية لآسيا وإنهاء العمليات البرية الطويلة، وهي الاستراتيجية التي عرفت باستراتيجية «آسيا أولاً»، والقائمة على منح أولوية لسلاحي الجو والبحر في مواجهة التحديات الاستراتيجية القائمة مع تراجع أولوية عمليات مكافحة التمرد الطويلة والمكلفة التي دمغت سنوات ما بعد 2001 وتمثلت في حربي أفغانستان والعراق. كما يذكر الكثيرون أن أوباما قال وقتذاك محذراً «نعم جيشنا سيصبح أقل عدداً لكن على العالم كله أن يعلم أن الولايات المتحدة ستحافظ على تفوقها العسكري مع قوات مسلحة ماهرة، مرنة، وعلى استعداد للرد في جميع الظروف والتهديدات». هذه هي «الرسالة» الحقيقية التي ينبغي التعامل معها، فالمسألة لا تتعلق بتراجع الموارد بقدر ما تتصل بإعادة توظيفها وتوزيعها بشكل يتماهى مع هدف الحفاظ على التفوق النوعي الاستراتيجي الأميركي، وفي المجادلة أيضاً هناك من يرى أن هذه توجهات الإدارة «الديمقراطية» للبيت الأبيض، وأنها ربما تشهد تغييرات حال وصول «الجمهوريين» إلى الحكم، وفي ذلك أشير إلى الإطار المؤسسي الحاكم للسياسات الأميركية، وهو أمر يجد ترجمة واضحة له في أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن هو من وقع وثيقة «مراجعة الوضع العالمي Global Posture Review ، وهي الوثيقة التي عكست حدوث تحولات في البيئة الأمنية الدولية في بدايات القرن الحادي والعشرين، وهذا الجهد الخططي الاستراتيجي، الذي انطلق في خلال فترة تولي دونالد رامسفيلد وزارة الدفاع الأميركية، قد غير الكثير من المفاهيم الاستراتيجية الأميركية، ولاسيما في ظل تلاشي خطر حدوث مواجهات عسكرية مع قوى عظمى أخرى، وظهور تهديدات غير تقليدية مثل تنظيمات الإرهاب والحروب السيبرانية وغيرها. وقد استفاد هذا التخطيط الاستراتيجي كذلك من الفكر السياسي، الذي كان قد تداول وقتذاك مفاهيم مستحدثة مثل «القوة الناعمة» وآليات توظيفها في الحفاظ على الهيبة الأميركية ومكانتها العالمية، ثم طور هذا المفهوم بعد ذلك ليشمل مزيج القوة المعروف بـ «القوة الذكية»، وهو يراوح بين القوتين الناعمة والخشنة، واستُخدم بكفاءة في تحقيق الأهداف والمصالح الأميركية، التي طالما كانت تُحقق بفاتورة باهظة، مادياً وبشرياً، وكانت إدارة واشنطن للأزمة السورية مثالاً لهذه الكفاءة. الخلاصة إذاً أن ما يحدث ليس تراجعاً في النفوذ الأميركي بقدر ما هو إعادة اصطفاف وترتيب للأولويات بما يضمن استمرار الهيمنة الأميركية على العالم.