خطت العلاقات الخليجية – الهندية خطوات سريعة إلى الأمام في شتى المجالات خلال السنوات الأخيرة ضمن سياسة "التوجه شرقا"، التي التزمت بها دول المنظومة الخليجية، ولاسيما منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الثنائية القطبية، وما حدث على هامش الحدثين من انفتاح الهند اقتصادياً ونبذها لسياسات التخطيط المركزي وما تلا ذلك من بروز الهند على الساحة الدولية كقوة اقتصادية وصناعية وعلمية وعسكرية صاعدة. ومما لاشك فيه أن الزيارة التاريخية الناجحة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للهند في يناير 2006 وحلوله كضيف شرف في احتفالات الأخيرة بعيدها الوطني فتحت آفاقا واسعة أمام رسم علاقات جديدة ومتينة ثنائية وجماعية على قاعدة المصالح المشتركة من بعد سنوات طويلة تخللتها الشكوك والهواجس المتبادلة بسبب عوامل خارجية مثل العامل الباكستاني، والعلاقات الاستراتيجية بين نيودلهي وموسكو، ووقوف الهند في صف ما كان يعرف بـ "معسكر الأنظمة العربية التقدمية" ضد ما وصف ظلما بـ "معسكر الدول العربية الرجعية"، ناهيك عن اعتماد الهند للنهج الاشتراكي الذي حال دون ارتباطها بدول الخليج بعلاقات استثمارية وشراكة اقتصادية مفيدة للطرفين، إضافة إلى عتب الهند لطردها من أكبر محفل إسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي) وقت تدشينه في الرباط في عام 1969 إرضاء لباكستان. إن زيارة خادم الحرمين الشريفين المشار إليها أزالت الكثير من الجفاء والركود وخلقت مناخا جديدا ساعد دول المنظومة الخليجية على الاستفادة القصوى من الهند الصديقة في مختلف المجالات، فراحت اللقاءات تعقد بين الجانبين على أعلى المستويات، ومعها تمّ توقيع العديد من الاتفاقيات وتشكيل الكثير من اللجان المشتركة لتعزيز الروابط التجارية والثقافية والاجتماعية التي لها من العمر آلاف السنين، وإنْ كان عمر العلاقات الدبلوماسية لا يتجاوز أربعة عقود (باستثناء العلاقات الدبلوماسية بين الرياض ونيودلهي التي دشنت في عام 1952). ومن محاسن الصدف أن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل مملكة البحرين اختتم زيارة ناجحة بكل المقاييس للهند قبيل وقت قصير من زيارة مسؤول خليجي رفيع آخر هو صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية ووزير دفاعها، الذي بحث مع نظرائه الهنود تمتين العلاقات السعودية والخليجية مع الهند أكثر فأكثر لتصبح الأخيرة ليست شريكة اقتصادية ومستوردة رئيسية للنفط الخليجي فحسب وإنما أيضا حليفة استراتيجية، وشريكة في مسائل الأمن والدفاع عن بحيرة الخليج وامتداداتها في بحر العرب والمحيط الهندي، وذلك كترجمة فعلية لما دعا إليه وزير الخارجية السعودي سمو الأمير سعود الفيصل في عام 2004 خلال حوار المنامة. وتحتل هذه المسألة أهمية قصوى اليوم بعدما خانت الدولة الغربية الكبرى عهودا طويلة من التحالف والصداقة والتعاون مع دول الخليج العربية وراحت تعقد الصفقات المريبة من وراء ظهرها مع النظام الإيراني المشاكس الساعي إلى زعزعة أمن المنطقة وغرس بذور الفتنة والشقاق بين أبنائها. ومناسبة هذا الحديث هو أن الهند ستواجه قريبا جدا استحقاقات تشريعية قد تؤدي إلى خروج حزب المؤتمر الهندي الحاكم من السلطة لصالح حزب المعارضة الرئيسي المتمثل في "بهاراتيا جاناتا"-كما تقول معظم المؤشرات- وبالتالي تسلم السيد "ناريندرا مودي" رئاسة الحكومة الهندية في السنوات الخمس القادمة. و"مودي"، الذي يعتبر شخصية مثيرة للجدل كونه -كما يقول خصومه- لم يتحرك بما فيه الكفاية للجم أعمال العنف من قبل الهندوس ضد المسلمين في ولاية غوجرات حينما كان رئيساً للحكومة المحلية لهذه الولاية قبل عدة سنوات، يحظى اليوم بشعبية كبيرة لأن خطابه الانتخابي يعتمد على القضاء على الفساد الذي يعتبر أحد أسباب تراجع شعبية حزب المؤتمر إلى جانب أسباب أخرى مثل تراجع معدلات النمو وزيادة نسبة البطالة، ناهيك عن أن الرجل حقق في غوجرات أثناء قيادته لها ما يشبه المعجزة الاقتصادية. وإذا ما صدقت التوقعات ووصل "مودي" إلى سدة الحكم، فإن الحدث يجب ألا يقلق مضاجع صانع القرار الخليجي وألا يرى فيه تهديداً لمسلمي الهند. ذلك أن الرجل ستحكمه، في سياساته وقراراته، قيود ومعطيات واعتبارات غير تلك التي حكمته يوم أن كان مجرد رئيس لحكومة محلية صغيرة، وبالتالي فلن يكون في وارد تشويه صورته بمعاداة المسلمين عبر اتخاذ مواقف عنصرية تجاههم أو الاستخفاف بحقوقهم وثقلهم الانتخابي. والدليل يمكن أن نستعيره مما حدث مع زميله رئيس حزب "بهاراتيا جاناتا" الأسبق "أتال بيهاري فاجباي" الذي وصم بالتعصب القومي والديني، لكنه حينما حكم الهند في الفترة ما بين عامي 1998 و2004 أثبت أنه زعيم معتدل ومتفهم للطموحات العرقية والجهوية والدينية لجميع أطياف الأمة الهندية، بل كان في مقدمة من رشحوا عالم الصواريخ المسلم البروفسور أبوبكر زين العابدين عبدالكلام لتولي منصب رئاسة الجمهورية الهندية. إن المسلمين الهنود، في اعتقادي ومن خلال خبرتي الميدانية، يتمتعون في ظل نظام بلادهم الديمقراطي الراسخ بالكثير من المزايا التي يفتقدها إخوتهم في أماكن كثيرة أخرى، فلنتركهم وشأنهم ليتدبروا مشاكلهم دون إقحام أنفسنا في شؤونهم وحمل راية الدفاع عنهم. فتلك أمور داخلية لا تتسامح معها الحكومة الهندية -كائنا من كان زعيمها- مثلما لا تسمح حكوماتنا بالتدخل في شؤونها الداخلية. أما خلاف ذلك فسوف يعقد علاقات دولنا مع الهند ويعيدها إلى المربع الأول، كما سيوفر الفرصة لأعدائنا على الضفة الأخرى من الخليج للاصطياد في الماء العكر والتودد للهنود على حساب مصالحنا.