بدأت فكرة إنشاء جامعة الكويت عام 1961، وبالطبع «كانت الخشية من قضية الاختلاط في الجامعة تطرح نفسها بمجرد طرح الموضوع»...هكذا يقول وزير التربية الأسبق أنور النوري، ويضيف أن الناس في الكويت كانوا منقسمين بين مرحب بالفكرة يرى الأمر من حتميات التطور الذي تشهده الكويت، وبين مشكك في جدوى إنشاء الجامعة، فقد رأى البعض الجامعة مقدمة لجلب الكثير من المفاسد للمجتمع! تسلم النوري منصبه كأمين عام للجامعة، حيث اشترط القانون «أن يكون كويتياً بالأصالة»، وافتتح سمو الشيخ صباح السالم الصباح الصرح الثقافي الرفيع عام 1966. وفي عام 1969 انتقل مقر «اتحاد الطلبة» إلى الكويت بدلاً من مقره الأول في القاهرة، وصار يعقد مؤتمره العام في الكويت، غالباً تحت رعاية ولي العهد رئيس مجلس الوزراء. وبدأ الاتحاد ينشط في كل اتجاه، في حمأة السنوات التي أعقبت كارثة الخامس من يونيو 1967، وصار الطلبة يثيرون كل ألوان القضايا، حتى «أن الاتحاد دعا مرَّة مندوبين عن الحكومة الكورية الشمالية، التي تحارب الأمبريالية الأميركية، فلبوا الدعوة وجاؤوا معهم ببقايا طائرة أميركية قال الكوريون الشماليون إنهم أسقطوها». كانت «ندوة الاختلاط» عام 1971 إحدى الندوات التي كان لها أثر كبير في الجامعة وفي المجتمع بكل مؤسساته. كان التيّار القومي الداعم للاتحاد قد فقد مواقعه العربية والمحلية إثر النكسة، وكان التيّار الديني في بداية انطلاقه، حملت الندوة عنوان «عدم الاختلاط في الجامعة.. إلى متى؟». ركزت جماعة الإخوان المسلمين جهودها، منذ أن سنحت لها الفرصة الجديدة، في السيطرة على المؤسسات النقابية وجمعيات النفع العام، وبخاصة ما كان منها معاقل اليسار والقوميين. ويقول د. فلاح المديرس إن الجماعة كانت تطلق على هذه المؤسسات «منتديات جاهلية»، يجب الابتعاد عنها، «ولكن في بدايات السبعينيات اتخذت قيادة الإخوان قراراً بالمشاركة في هذه المؤسسات، وحصل انقسام داخل التنظيم الطلابي - لجماعة الإخوان - في القاهرة عندما بدأ الاستعداد للانتساب إلى «الاتحاد الوطني لطلبة الكويت»، فبرز اتجاهان: الأول يصر على أن هذه المؤسسات ما هي إلا منتديات جاهلية لا يجوز المشاركة في نشاطاتها، أما الاتجاه الثاني فيرفض العزلة الشعورية ويدعو للانتساب إلى هذه المؤسسات للدعوة واكتساب مؤيدين للتنظيم. وحسم هذا الخلاف الاتجاه الثاني عندما دعا أمير الجماعة جميع أفراد التنظيم في القاهرة المنتسبين في الجامعات المصرية. وعلى إثر هذا الاجتماع نشط «الإخوان» في العمل داخل «الاتحاد الوطني لطلبة الكويت» فرع القاهرة. ومن خلال «اللجان الثقافية» و«اللجنة الدينية» التي يسيطر عليها الطلبة المنتمون إلى «الجماعة السلفية» في الاتحاد، استطاعت قائمة «الإخوان» اكتساح الانتخابات وإخراج اليسار والقوميين من قيادة فرع الاتحاد». (جماعة الإخوان المسلمين في الكويت، 1999، ص 35). ويقول النوري: كان هناك جمهور ضخم في «ندوة الاختلاط» وكثير منه ليس من طلبة الجامعة. وما أن بدأت، حتى بدأ الجمهور زحفه نحو خشبة المسرح، وبدأ التدافع والاشتباك بين المؤيدين والمعارضين، وتبدأ المعركة. يقول علي حسين العوضي في كتابه «الحركة الطلابية الكويتية والتيّارات السياسية»، 2000: «بدأت الندوة في موعدها المعين الساعة السابعة والنصف مساء، وما إن شرع مدير الندوة بالترحيب بالحضور والتعريف بموضوع الندوة وتقديم المتكلمين فيها، حتى انبعثت من مؤخرة القاعة أصوات غاضبة كانت تجاهر بهتافات حانقة، ثم ما لبثت جحافل المؤخرة أن زحفت إلى المسرح ودخلت في حوار صاخب مع مدير الندوة.. ثم تدافع الناس وبدأت تطير في الهواء «عقال وغتر ونعال» وتعالت في الجو أنواع من الشتائم والقذوفات، حيث تصدّت مجموعات طلابية وغير طلابية من أعضاء جمعية الإصلاح الاجتماعي بالاعتداء الجسدي على منظمي هذه الندوة، والذين ينتمون إلى اليسار والقوميين من أعضاء الاتحاد الوطني لطلبة الكويت وأدى ذلك ببعض أعضاء الندوة إلى الانسحاب، ثم دعوة منظمي الندوة إلى إلغائها والطلب من الحضور ترك القاعة حفاظاً على سلامتهم، وبدأ الجميع بالخروج من القاعة وأعقب هذا الصدام خروج مظاهرتين إلى مجلس الأمة، الأولى مؤيدة للاختلاط والثانية معارضة له تم تنظيمها من قبل جمعية الإصلاح الاجتماعي، وشهدت الساحة حرب بيانات تؤيد أو تدين الاختلاط». واجتمع بعد ذلك الحدث مجلس الوزراء، واتخذ ثلاثة قرارات أولها إغلاق مجلة «المجتمع» التي تصدرها جمعية الإصلاح لمدة ثلاثة أشهر، وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، والطلب من الجامعة اتخاذ قرارات تحول دون تكرار ما حدث. كان التيَّار القومي واليساري في الكويت، يقول «النوري»، يواصل انتقاد الجامعة ويعارض توجهاتها، ويقول إنها لم تواكب الطموحات ولا تقوم بالدور التنويري المأمول. ومن هُنا كانت الجامعة ميداناً لتحرك هذا التيّار وإظهار قوته. من جهة أخرى، يضيف، كان التيّار المحافظ ممثلاً في جماعة الإخوان المسلمين، «جمعية الإصلاح»، ولسان حاله «مجلة المجتمع»، «يبحث عن دور أكبر في الساحة الكويتية للحد من نفوذ المعارضة اليسارية. ناهيك عن أن هذا التيّار كان يرى في الجامعة شراً مستطيراً، ومجلبة للفساد لن يُعرف لها حد. وعلى قمّة هذه المفاسد بالطبع، اختلاط النساء بالرجال». وأصبحت كل كبيرة وصغيرة مما يقع في الجامعة قضية مجتمعية، وكذا أي نشاط أو كلمة تصدر من عضو هيئة تدريس، سرعان ما تهتم به صحف الكويت ومجلاتها، «وعلى رأسها بالطبع مجلة المجتمع»، يقول النوري، «التي كانت تتصيد الأخطاء وكأنها تتمناها». وعلى امتداد 19 عدداً عام 1971، نشرت المجلة موضوعات «تصور الجامعة وكأنها وكر للفساد الإداري والمالي، بل والأخلاقي». فعناوين الموضوعات كانت من قبيل «أيها الصحفيون أيها المسؤولون تعالوا إلى جامعة الكويت لتروا كيف يكون التبذل وصور الاختلاط المبتكرة»، «انقذوا الجامعة»، «أمر الاختلاط استفحل»، «يوم الوافد يتحوَّل مفهومه إلى يوم حافل بالرقص والاختلاط»، «انقذوا الجامعة من الضياع»، «فرق من طالبات الجامعة تتدرب على الرقص والموسيقى والغناء والعزف». وقامت المجلة، يضيف النوري في مذكراته، بنشر تغطية لحفل التعارف السنوي الذي تقيمه الجامعة تحت عنوان «مديري الجامعة يخدع المسؤولين ويقيم حفلاً خليعاً جرحت فيه أعراض الرجال، بينما المسلمون يتأهبون للاحتفال بالعيد»، وعناوين أخرى مثل «المجتمع تحصل على صور فاضحة جداً تدمغ عبد الفتاح إسماعيل - مدير الجامعة بتهمة إفساد الشباب وطعن المجتمع الكويتي في أغلى ما يملك». أما التعليقات على الصور، فكان أحدها «التُقطت في إحدى حانات أوروبا». كما حفل المقال نفسه، يقول النوري، بكثير من التجريح والقذف الذي يحاسب عليه القانون، مثل «انصرف كثير من الطلبة والطالبات عن فقرات الحفل وانشغلوا بالغزل والهمس»، «كان أحد الشبان يسند ظهره على فتاة خلفه بقصد واضح، والفتاة لم تعترض ولم تضجر»، «إنه حفل منحل.. ماجن.. خليع». نُشر هذا المقال، يقول النوري، في عدد المجلة الصادر في التاسع من نوفمبر 1971، أي قبل إقامة ندوة الاختلاط بأربعة أيّام. لذلك، رأت الجامعة أنه لا يمكن السكوت على هذا التحريض والسباب والقذف، وقررت رفع قضية ضد مجلة المجتمع. وواصلت المجلة موقفها المتربص بالجامعة، حيث «غدا سوء الظن المتعمد أساس تعامل «مجلة المجتمع» مع الجامعة و«التحفز الدائم لاتهامها بكل نقيصة». «لقد أخذت قضية الاختلاط من عمر الجامعة الكثير والكثير» يقول الوزير الأسبق السيد أنور النوري، و«هي من القضايا المزمنة التي لم تحسم حتى الآن. وبدأت تظهر مفارقات، فعلى سبيل المثال، في إحدى السنوات كانت هُناك طالبة وحيدة في قسم الجيولوجيا تُلقى عليها محاضرة من أستاذ وللحقيقة، فإن الطلبة والطالبات كانوا آخر من يثير هذه القضية». كانت هذه القضية تستنزف آنذاك، ولا تزال، الكثير من الجهد والوقت. ويقول النوري إنها كانت دائماً من نقاشات ميزانية الجامعة في مجلس الأمة، والمشكلة أن أغلب من كانوا ينتقدون الاختلاط»، «كانوا غير مؤهلين لذلك. فكانت نظرتهم تنحصر في القضية الأخلاقية». لقد نجح الإسلاميون في الترويج لمصطلح «الاختلاط» بديلاً عن «التعليم المشترك». وكانت «معركة ندوة الاختلاط» في الكويت عام 1971 إحدى مواقعهم المشهودة. ولكن هل خاض الإسلاميون أية معارك لتجديد التعليم في العالم العربي، بحماس واندفاع يشبه استماتتهم في معارك «الاختلاط»؟!