«القاهرة» بعبق تاريخها وعمقه، بسحر تراثها وعراقته، بروعة عمارتها وجمالها، بشوارعها وحواريها ودروبها، بأحيائها القديمة (الشعبية والمتوسطة والراقية)، بدواوينها الحكومية ومنشآتها، بدورها وقصورها، بمتاحفها ومسارحها ودور سينمائها، بمحالها ومقاهيها، بأسواقها وبازاراتها.. المحروسة بمساجدها وكنائسها ومعابدها، بمقامات آل البيت فيها وأضرحة أوليائها الصالحين، بمآذنها وقبابها وزواياها.. كل ذلك نطالعه في كتاب «التطور العمراني لشوارع القاهرة.. من البدايات حتى القرن الحادي والعشرين»، لمؤلفه فتحي حافظ الحديدي، وهو باحث خبير بأحياء القاهرة وشوارعها، سبق أن عمل موظفاً في وزارة الأشغال العمومية حين كانت تُعنى بتخطيط الشوارع وتسميتها ووضع حدودها الجغرافية وبالتوثيق للمباني، قديمة كانت أم حديثة،? قبل أن تختفي وتحل محلها وزارة? ?الري?. وسبق للحديدي أن أصدر كتاباً قيماً عام 2009 أرّخ فيه لسبعة عشر ميداناً شهيراً في القاهرة، وقبله أصدر في عام 2007 كتاباً ضخماً آخر عن? «?الأصول التاريخية لمؤسسات الدولة والمرافق العامة بمدينة القاهرة?»?. أما كتابه الجديد الذي نعرضه هنا، فهو عمل موسوعي يقع في 526 صفحة من القطع الكبير، يعرِّف بشوارع القاهرة ومبانيها وآثارها الشهيرة، ويشتمل على صور وسجلات نادرة من أرشيف وزارتي الأشغال العمومية والأوقاف. كما يرتب موضوعاته أبجدياً، لتيسير الوصول إلى معلومة بعينها أو تاريخ شارع بذاته، أو مبنى قديم أو أثر تاريخي معين. وفي مستهل كتابه، يذكر المؤلف أن مدينة القاهرة الحالية هي مدينة موغلة في القدم مثل قدم نهر النيل‏،‏ خلافاً لما هو شائع من أنها تأسست قبل نحو ألف سنة على أيدي الفاطميين، كما يوضح أن موقعها المتوسط بين الوجهين البحري والقبلي أعطاها ميزة فائقة أهّلتها لتكون مدينة مهمة، هي «مصر»‏ التي أخذ منها القطر المصري اسمه التاريخي. وكما يذكر المؤلف، فقد كانت مدينة القاهرة في عام ‏1900‏ تمتد من حي مصر القديمة جنوباً إلى حي العباسية شمالا،‏ ومن جبانات شرق القاهرة شرقاً حتى نهر النيل غرباً، وكان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم «مصر‏»، وهو الاسم الذي ظلت الأوراق الحكومية تحمله‏ حتى منتصف القرن. ويبحث الكتاب في «تسمية شوارع القاهرة»، والتغييرات التي أجريت عليها، وما لحق تسميات المنشآت العامة الكائنة بتلك الشوارع من تغييرات، موضحاً الشكل المساحي لكل شارع والعقارات المقامة عليه وارتفاعاتها، مع التطرق لأثر الزيادة السكانية على منطقة «وسط البلد» بالقاهرة، وما ترتب على ذلك من تغييرات طالت مبانيها، وطمست الكثير من الحقائق التاريخية. ويفرد الحديدي صفحات كتابه للتعريف بشوارع «المحروسة»، بدءاً بشارع أحمد باشا، وشارع أحمد ماهر (تحت الرَبع)، وشارع الأزهر، والألفي، والبستان (عبد السلام عارف)، وصولا إلى شوارع محور شمال الجمالية الذي يضم «البغالة»، «البنهاوي»، «باب الفتوح»، والقصاصين». ويواصل الحديدي مسحه الميداني والتاريخي والأثري لبقية الشوارع الشهيرة في القاهرة مثل: شارع التحرير، الجمالية، الجمهورية، جواد حسني، جوهر القائد، الجيش، حسن الأكبر، الحسينية، خيرت، رشدي، رمسيس والجلاء، شريف، شامبليون، الشواربي، الشيخ ريحان، صبري أبو علم، طلعت حرب، عبد الخالق ثروت، عبدالعزيز، عدلي، عماد الدين، الفجالة (كامل صدقي)، قصر العيني، قصر النيل، كلوت بك، كورنيش النيل، المبتديان، محمد علي، مجلس الشعب، محمد محمود، مصر والسودان، المعز لدين الله، منصور، الموسكي، نجيب الريحاني، نوبار، وأخيراً شارع 26 يوليو. وإلى ذلك يتناول الكتاب أهم المباني في القاهرة، والتي كانت قائمة في فترة من التاريخ وتم هدمها أو تغيير هويتها العمرانية وإحلال مباني أو عمارات حديثة على النمط الغربي محلها، كما يذْكر بالتواريخ والبيانات الموثقة ما آلت إليه تلك المباني، وقبل ذلك كيف ومتى نشأت وعاشت، وفي أي ظروف هُدمت. إنه كتاب شيق يضم بين دفتيه صوراً فوتوغرافية نادرة للعديد من شوارع القاهرة ومعالمها الرئيسية في فترات مختلفة من تاريخ مصر الحديث، يشعر من يطالعه بمتعة خفية وأسى دفين. متعة تنعش الذاكرة وتثير الحنين إلى الماضي، وتبعث على التأمل في ذكرياته ولحظاته الخوالي.. وأسى يكتسي مسحة من الحزن على ما آلت إليه الأوضاع في هذه المدينة التاريخية، نتيجة عوامل في مقدمتها الانفجار السكاني بما خلّفه ويخلِّفه من زحام وضوضاء، وفوضى معمارية وعشوائيات أساءت إلى القاهرة وتاريخها الحضري العريق. محمد ولد المنى ------ الكتاب: التطور العمراني لشوارع القاهرة المؤلف: فتحي حافظ الحديدي الناشر: الدار المصرية اللبنانية تاريخ النشر: 2014