في تلك الأيام الخالية التي طرح فيها ميخائيل جورباتشوف مبادرتي «البيريستوريكا» للإصلاحات الاقتصادية و«غلاسنوست» للشفافية والصراحة، مما عجّل بانهيار الشيوعية، سارع بعض المراقبين إلى الاحتفال بانتصار الرأسمالية، وأشار البعض إلى أن ذلك بمثابة نهاية لعداءات الأيديولوجيا، فيما وصفه آخرون بأنه يمثل «نهاية التاريخ». ولكن في لغة علماء السياسة، مرّ نظام العلاقات الدولية باستعارات زمانية منذ أن كان ثنائي القطبية خلال معظم فترة الحرب البادرة، إلى أن أصبح أحادي القطبية. والمقصود بذلك أن القوة كانت موزعة بين قوتين عظميين، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، باتت القوة مركزة فقط في أيدي القوة العظمى المتبقية ألا وهي: الولايات المتحدة. ولكن القوة وتطبيقاتها في النظام الدولي دائماً ما كانت سريعة التغير، وتتطور بصورة أسرع من قدرات التعلم لدى المستفيدين منها والمنخرطين في رسم موازين القوى عبر العالم. وعلى الرغم من ذلك، ثمة ملمح واحد ظل ثابتاً عبر العصور منذ بداية نظام العلاقات الدولية الحالية مع توقيع معاهدة «ويستفاليا» في عام 1648، وهو أن الدول الفردية تفهم وتمارس العلاقات الدولية على أنها صراع دائم على السلطة. ولكن الفترة في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، التي لعبت فيها الولايات المتحدة دور القوة العظمى الوحيدة، كانت قصيرة، ولاسيما أن وضع تفوقها واجه تحدياً من أقطاب وقوى صاعدة من روسيا إلى الصين والاتحاد الأوروبي، وهو ما شكّل نظام علاقات دولية متعدد الأقطاب في الواقع. ومن المفترض أن ميزة هذا النظام تكمن في أنه يجعل من الصعب على أية قوة السيطرة بمفردها على مجريات النظام الدولي وتطبيق قيمها، التي قد لا تتقاسمها بقية دول العالم. ولدى الولايات المتحدة إيمان عميق بشخصيتها وخصوصيتها كهبة منحها القدر لها بصورة استثنائية، وعليه، فإنها تبرر تصدير قيمها الديمقراطية بالإشارة إلى «مهمتها التاريخية»، إضافة إلى «بيان القدر»، وهو اعتقاد بأن الولايات المتحدة سيمتد حكمها ونفوذ تأثيرها ليعمّ المعمورة. ولكن بغض النظر عن إيمانها بـ «بيان القدر»، فإن مفهوم القوة سريع التغير ويخضع لقيود تفرضها القوى المتنافسة، أو التغيير الثوري الناجم عن التطور التكنولوجي الذي توضحه الأخبار الأخيرة عن قرصان شاب يبلغ من العمر عشرين عاماً نجح في الوصول إلى مستندات سريّة في وزارة الدفاع الأميركية «البنتاجون»، أو قرصان شاب آخر نشر معلومات بطاقات ائتمان خاصة بعملاء أحد أكبر البنوك الإسرائيلية. وعلى صعيد الأزمة الراهنة في أوكرانيا، ألقى الكتاب الأميركيون المحافظون باللوم على أوباما، زاعمين أن سياسته الخارجية «المرنة» حيال روسيا، والتي راهنت على المصالح المشتركة كبديل عن المواجهة، عززت من قوة بوتين. وادعى هؤلاء الكتاب أن بوتين كان يتبع قواعد السياسة الواقعية، مستخدماً التمويه والخداع لتحقيق أقصى قدر من القوة، بينما كان أوباما يتبع نهج التعددية، واضعاً ثقته في الأمم المتحدة وفي قدرة الدبلوماسية على حل الأزمات الدولية. وفي هذه الأثناء، لا يألو بعض المنتقدين جهداً في حض أوباما على دراسة إمكانية إيجاد حل عسكري للأزمة، ولكن ما من شيء سيكون «أكثر حماقة وانعداماً للمسؤولية» من الحل العسكري، فهل يتوقف هؤلاء المحرضون على الحرب عن التفكير بمثل هذه الخفة؟ وهل يعتقدون حقاً أن رئيس الولايات المتحدة سيخوض مغامرة الهجوم على دولة مسلحة نووياً ويعرض دولته لدمار لا نهاية له؟ وما هو الداعي لفعل ذلك أصلاً؟ وبالطبع، فقد تغير واقع القوة بشكل كبير في العصر النووي، فعلى سبيل المثال، لم يعد تماثل الجودة التسليحية ضرورياً لإحداث توازن بين قوتين نوويتين، ففي حين تمنح الأسلحة النووية قوة ردع دفاعية هائلة، فإنها تفرض قيوداً على استخدام قوة الأسلحة الهجومية التقليدية.. خوفاً من التصعيد. وفي ضوء ذلك، كيف يمكن أن تحدث مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وروسيا؟ وكيف نعرف من سينتصر بعد تحول المدن الأميركية والروسية الكبرى إلى أطلال، واستبدال كافة علامات المجتمع المتمدن بغبار ذري كئيب يذكرنا بعصور ما قبل التاريخ؟ وكيف سيساعد ذلك أوكرانيا على التكامل مع الغرب؟ من الواضح أن هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها بأية درجة من الإيمان بإمكانية وقوعها؟ وربما يوضح ذلك خيبة الأمل والنبرة الحادة غير المعتادة من قبل المندوبة الأميركية في اجتماع مجلس الأمن. وقد صرحت المندوبة بأن «هناك استعداداً لاتخاذ خطوات إضافية إذا ما تواصل العدوان أو الاستفزازات الروسية». واتهمت موسكو بالسرقة، مضيفة «يمكن للص أن يسرق الممتلكات، ولكن لا يمكنه ادعاء حق ملكيتها». ومن الملاحظ بشكل كبير في هذا السياق أن الوفد الأميركي في الأمم المتحدة لم يستخدم أبداً المنطق نفسه الذي لا يمكن دحضه في وصف حالة أكثر فظاعة بكثير: هي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والبناء الاستيطاني في الأراضي المحتلة. وبالطبع، لم يدخر السفير الروسي جهداً في الاحتجاج قائلاً: «من غير المقبول تماماً أن نستمع إلى هذه الإهانات التي تُكال لبلادنا».