لا يخص الدستور صانعيه، ولا أولئك الذين يرجعون إليه أو يضعونه في اعتبارهم وهم يسنون القوانين ويقررون التشريعات التي تحكم تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية في أي بلد من البلدان، وإنما يخص الدستور كل المواطنين، وتزداد قيمته وروعته كلما شعر أي مواطن بأن هذا الدستور قد كتب خصيصاً له، للدفاع عن حقوقه وصيانه حرياته وتحديد واجباته، بغض النظر عن الدين الذي يعتنقه، والمذهب الذي يتمسك به، والعرق الذي ينحدر منه، والطبقة التي ينتمي إليها، والثقافة التي يمتلكها، والجهة التي يقطن فيها. وكلما كانت مواد الدستور تتسم بالعمومية والشمول، والنظر الثاقب إلى المستقبل، والتخفف من حمولات الحاضر العابر، والرهان على صياغة الآتي عبر تحديد القواعد العامة التي تحكمه، كلما كان الدستور أفضل، وأقدر على الاستمرار، وأكثر فاعلية في الحفاظ على مصالح الأمة التي يحكمها أو يحدد قواعد مختلف الممارسات العامة فيها. لهذا السبب يجب على فقهاء الدستور أن يضعوا نصب أعينهم ضرورة إشاعة الثقافة الدستورية في المجتمع على أوسع نطاق ممكن، إذ لا يكفي أن يدرسوه على أنه مجرد مادة قانونية من ضمن مواد عديدة في كليات الحقوق بمختلف الجامعات، ويتم هذا من خلال التواصل مع قادة الرأي الذين بإمكانهم توسيع دوائر الوعي لدى قطاعات جماهيرية أعرض من تلك التي يمكن أن يصل إليها واضعو الدساتير، الذين يحكمهم في الغالب الأعم الانحياز إلى الصياغات الفنية والنقاش المتخصص أكثر من ميلهم إلى مخاطبة بسطاء الناس أو ذوي المستوى التعليمي المحدود. وبعد ثورة يناير في مصر التفت عدد من الكتاب إلى هذا الأمر فخرجت إلى النور مجموعة من الكتب التي تؤرخ للدساتير المصرية أو تشرح بعض جوانبها، بغية المشاركة في تعميق الوعي لدى شعب ذهب في السنوات الثلاث الأخيرة إلى ثلاثة استفتاءات على دستورين، وتعديلات دستورية فارقة عقب الثورة. وطيلة هذه المدد كان النقاش حول الدستور، مادة مادة، أو إجراء مناظرات بين من ينادون بالتصويت بنعم عليه أو أولئك الرافضين له، هو الشغل الشاغل لأجهزة الإعلام، ما ساهم في خلق رأي عام حقيقي للمرة الأولى في مصر، منذ دستور 1923، حول الثقافة الدستورية. وفي هذا السياق وقبل نحو سنة ونصف السنة أهداني الكاتب الصحفي الأستاذ محمد حماد كتاباً جمع فيه الدساتير المصرية حتى الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد ثورة يناير، لأضعه في مكتبتي، بعد مطالعته، إلى جانب كتاب جمعه ألبرت شفيق وأعطاه عنوان: «الدستور المصري والحكم النيابي في مصر من 1866 حتى 1923»، وبعدها نشر الشاعر والكاتب الصحفي الأستاذ ماهر حسن كتاباً صادراً عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» عنوانه: «حكاية الدساتير المصرية في مائتي عام» وقد بذل فيه جهداً فائقاً لجمع مسودات المحاولات الدستورية منذ محمد علي باشا الذي تولى حكم مصر سنة 1805 وحتى دستور 2012، المعروف لدى الناس بـ«دستور الإخوان». وهو لا يكتفي برصد مواد تلك الدساتير، بل عالج ما كان يحيط بصناعتها من أحوال سياسية واجتماعية وقانونية، وذلك بلغة سلسة، لا تستغلق على أفهام من ليست لديهم خبرة عميقة بالدساتير ولا إلمام قوي بالسياسة ودهاليزها. وهذه الكتب تفيدنا كثيراً، لأنها تحقق عشرة أهداف يمكن ذكرها في نقاط محددة على النحو التالي: 1- تعميق الثقافة الدستورية بشكل خاص والثقافة السياسية بشكل عام، لدى الجماعة الوطنية، وهذه مسألة غاية في الأهمية، لأن هذين اللونين من الثقافة يعززان الوعي السياسي والمشاركة والانخراط في صناعة القرار ومحاسبة السلطة على أي تجاوز. 2- تمنحنا هذه الكتب فرصة جيدة للمقارنة بين الدساتير المتتابعة، لنعرف ما إذا كنا نتقدم إلى الأمام نحو بناء دولة حديثة أم نتقهقر إلى الخلف، أم نقف في مكاننا لا نبرحه. 3- تجعلنا هذه الكتب نختبر بسهولة علاقة النص الدستوري بالممارسة الفعلية، من خلال تتبع تطبيق مواد الدستور في الواقع المعيش، لنعرف ما إذا كانت السلطة التزمت بها، أم جعلتها حبراً على ورق، أو قيدتها وفرغتها من مضمونها عبر القوانين والتشريعات التالية على إقرار الدستور. 4- جمع هذه الدساتير يطلعنا على المحطات الفارقة في تاريخ أمتنا، لأن عملية إنتاج الدستور ترتبط غالباً بلحظات تاريخية مختلفة ومغايرة وفارقة. 5- يمكن أن نستفيد من تحليل نصوص تلك الدساتير المتتابعة في الوقوف على علاقات القوة في المجتمع، اتكاء على تصور يقول إن القانون تضعه الفئة أو الطبقة المهيمنة، أو يعبر، على الأقل، عن مستوى التدافع الاجتماعي والقوى المنخرطة فيه. 6- تضعنا تلك الدساتير في فهم تطور النظام السياسي والاجتماعي في مصر، ولذا تستفيد الدراسات التي تتصدى لهذه المسألة من عملية الإحالة إلى الدساتير وغيره من الأطر التشريعية التي تحكم عملية التطور تلك. 7- يعد الدستور محكاً رئيسياً لاختبار مدى نجاح الثورة من عدمها، فما يحتويه من مواد يحدد ما إذا كانت أهداف الثورة قد تُرجمت وتجذرت في النص الأساسي الذي يحكم الدولة أم لا. فإذا عكس الدستور مبادئ الثورة ومطالبها وأهدافها يمكننا أن نقول باطمئنان إن الثورة في طريقها إلى النجاح، والعكس صحيح. 8- يعكس رصد وتحليل الخلفيات المهنية والاجتماعية والنوعية للجان التي صنعت الدساتير مستوى إيمان المجتمع بالتعددية من عدمه. 9- تبين الدساتير طريقة التفكير السياسي والاجتماعي في لحظة صناعتها، وإدراك المجتمع لنفسه والعالم من حوله وإيمانه بدوره ومهمته ووظيفه. 10- هذا الجهد مفيد للباحثين في القانون الدستوري وفي العلوم السياسية على حد سواء.