«يا سواسبولُ سلامُ، لا يَنَلْ مجدك ذامُ». هكذا استّهل الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري قصيدة «سواسبول» التي نشرتها صحيفته «الرأي العام» في 7 يوليو عام 1942 «حين اشتداد المعارك الضارية في سواسبول، القاعدة البحرية السوفييتية الشهيرة خلال الحرب العالمية الثانية». وكتَبَ الجواهري اسم المدينة «سواسبول» بدلا من «سيفاستوبول» للضرورة الشعرية! والجواهري كالمتنبي رأى الضرورات التي لا يراها الآخرون. «يا سواسبولُ ووجهُ الدهر يَصحو ويُغامُ. مرَّ عامٌ كل يومٍ منهُ في التاريخ عامُ. كُلُّ آنٍ يسأل العالمُ: ماذا يا عِصامُ»؟ و«ماذا يا عصامُ» فعلته الثورة، والتي رحّب بها بوروز، الرئيس التنفيذي للوحدة الأوروبية، واعتبرها صفحة جديدة في دول المجموعة الأوروبية الثماني والعشرين، التي أثقلها الكربُ الاقتصادي، وتزايد شك الرأي العام بأهداف الوحدة الأوروبية؟ «وبعد مرور ثلاثة أشهر واستمرار الأوكرانيين الموالين لأوروبا بالتظاهر، يجد المنتصرون بلدهم مهدداً بالتقسيم من جانب روسيا، والاحتجاجات جلبت الحكاية القديمة من جديد؛ الحرب الباردة التي كل ما ستفعله تشديد انقسامات أوروبا، فيما تكشف الهوة ما بين الطموحات العالية والواقع الفظ للجيوساسات التي يمارسها بوتين». هذه حصيلة تقرير مراسل «نيويورك تايمز» في بروكسيل في ختام قمة المجموعة الأوروبية الأسبوع الماضي. «قمة الأمن النووي» في لاهاي التي أعقبتها لم تنزل العقوبات المتوقعة بروسيا، واكتفت بوقف عضويتها في «مجموعة الثمانية»، وهي «نادي النخبة بالمقارنة مع عمل مجموعة العشرين التي تحتفظ روسيا بعضويتها»، حسب وزير الخارجية الروسي. والقمتان لم تسفرا عن خارطة طريق لخفض الاعتماد على الغاز الروسي، الذي «يحدُّ بشكل فعال من استقلالية أوروبا». قال ذلك رئيس وزراء بولندا، ووعد قبيل القمة بالتحدث «مع ميركيل بشكل صريح تماماً، وسأوضح لها أن سياسات المناخ والغاز الطبيعي تهدد أمن واستقلالية عموم أوروبا». وكما يقول المثل الألماني «لابد أن يكون البط بولندياً، فهو لا يتوقف عن الزعيق تاك تاك تاك». و«تاك» تعني «نعم» بالبولندية، و«تاك» ألمانيا تحصل على ثُلث غازاتها من روسيا، و«تاك» بولندا 91 في المائة من غازاتها من روسيا، ولتوانيا 92 في المائة، وسلوفاكيا 98، وبحساب أسعار شراء الغاز الروسي تحتل ألمانيا المرتبة الأولى بـ103 مليارات دولار، وبعدها هولندا بـ99 ملياراً، وبولندا بـ20 ملياراً. (يوروستات- خدمات معلومات التجارة العالمية). ومشكلة أوروبا مع روسيا أكبر من الغاز الروسي الذي تدّعي دول الوحدة أن حاجتها إليه تحدُّ «قرارات ينبغي اتخاذها ضدها لضّمها أراضي أوكرانيا». مشكلة أوروبا مع روسيا مشكلتها مع نفسها، ومع قارة آسيا. فروسيا «بيضة القبان» في القارتين؛ أنّى تميلُ يميلُ القُبّان، هكذا منذ تأسيس دولة «روسيا كييف» في القرن العاشر الميلادي، وأفضل من يفهمها جارتها ألمانيا التي خاضت ضدها حربين عالميتين مهلكتين، قُتل في الثانية منهما 26 مليون روسي، وهو رقم لا مثيل له في التاريخ، ولا يدرك حجمه الفادح سوى القاتل والقتيل. وكما يقول دوستوييفسكي «المعاناة هي الأصل الوحيد للوعي». ولم يعِ العالم بعدُ معاناة الروس من انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي قام أصلا للحيلولة دون انهيار الإمبراطورية الروسية القائمة منذ قرون. وروسيا اليوم كبطل رواية تولستوي «الحرب والسلام» وقد استعاد وعيه بعد المعركة فوجد نفسه حياً: «ها أنا حيٌ، وهذا ليس خطأي، وعليّ إذن أن أمضي بأحسن ما أستطيع دون أن أؤذي أحداً حتى يحل الموت». و«قبل أن ننتقد الرئيس الروسي، على الغرب أن يُقرّ بتاريخ خياناته لروسيا»، ذكر ذلك الكاتب البريطاني جيفري ويتكروفت في «الجارديان» وتحدث عمّا ارتكبه الغرب منذ انهيار الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من 20 عاماً: «كل ما يمكن تصوره من أخطاء في التعامل مع روسيا. واعتُبرت أي محاولة لروسيا لحماية مصالحها القومية استفزازاً، بينما الاستفزاز جاء من الغرب». وتساءل ويتكروفت ما إذا «كان الروس هم الذين غزوا باريس عام 1812»، في إشارة إلى غزو نابليون روسيا، و«ما إذا كان الروس هم الذين غزوا برلين عام 1941»، في إشارة إلى الاجتياح الألماني لروسيا. وندّد بما سماه «غباء الناتو» في التوسع نحو الشرق منذ التسعينيات. «ورغم وعد بوش الأب لجورباتشوف بأن لا تُلحق بلدان المعسكر الشرقي بالناتو، فعل ما هو أسوأ من ذلك؛ ألحَق دول البلطيق السوفييتية بالناتو». والآن أكبر أخطاء ألمانيا حساباتها الخاطئة لقوة روسيا، حسب هيلموت كول، المستشار الألماني السابق، الذي صرّح لأوسع صحف ألمانيا انتشاراً، وهي «بيلد»، بأن «أخطاءً جسيمة ارتكبت في السياسة تجاه أوكرانيا». واعترف كول ضمنياً بالتحكم بسير الأحداث في أوكرانيا، حين قال: «متابعة مزاج الثورة في أوكرانيا لم يكن ذكياً، ومثله عدم الحساسية في التعامل مع الجار الروسي، وخصوصاً مع بوتين». وأضاف: «لا نستطيع نسيان أن الحرب ليست سياسة». و«من دون معرفة مَنْ أكون، ولماذا أنا هنا، فالحياة مستحيلة»، قال ذلك تولستوي، وعلى أوروبا الغربية أن تعرف من تكون في تعاملها مع روسيا، وكذلك مع الصين، وبلدان المسلمين؛ إما إمبريالية، أو متحضرة، ولا يمكن أن تكون الاثنين معاً، كما فعلت وتفعل في العراق، وأفغانستان، وباكستان، وليبيا، وسوريا، واليمن، ولبنان، وقبل وبعد كل شيء فلسطين. لا يمكن أن يمضي الغربُ في تدمير الدول والشعوب ثم ينشئ صناديق خيرية لإعادة بنائها، ويلقي باللوم على القتلة واللصوص الذين سلّمهم مصائر هذه البلدان. في وسط روسيا، حيث مركز خطوط السكك الحديد التي تربط روسيا الأوروبية، وسيبريا، والقوقاز، وأوكرانيا، تقع مدينة «فورونيش»، وفي جامعتها تمثال نصفي للجواهري، أقامه «مركز الدراسات العراقية الروسية». ومفاجأة المركز الذي يرأسه الأكاديمي العراقي ضياء نافع، أن يحمل مخطوطة قصيدة «سواسبول» إلى الكرملين، ومعها مجموعة رسوم الفنان ضياء العزاوي لقصائد الجواهري، تحمل توقيع الجواهري نفسه. و«بالله عليكم توقفوا لحظة، كُفّوا عما تفعلونه، وانظروا حولكم». قال ذلك تولستوي. ولو توقفنا، ونظرنا حولنا سنجد أجمل نساء العالم في أوكرانيا، وأحكي عن معرفة، فقد درستُ مع الأوكرانيات في جامعة «بطرسبرغ»، وسافرتُ معهن إلى «كييف»، وصيّفْتُ على سواحل البحر الأسود في شبه جزيرة القرم، وأبحرتُ مرتين من ميناء أوديسا جنوب أوكرانيا بباخرة روسية عبر موانئ البحرين الأسود والمتوسط إلى الإسكندرية، وبيروت. ولا أعني أن العراقيات ونساء العرب أقل جمالا من الأوكرانيات، لا، فمع تقدم المعرفة نعرف أن ليس هناك أجمل من جميع نساء العالم. «يا سواسبولُ؛ سلامُ، وهيامٌ وغرامُ. وتسابيحٌ تُغنًّي بكِ ما غنّى حمامُ. يا سواسبول سينجابُ من الشرِ قُتامُ. وستستيقظُ أجيالٌ على الذُل نيامُ». * مستشار في العلوم والتكنولوجيا