لم تعد روسيا نمراً من ورق. فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، كشر عن أنياب بلاده في مواجهة ما يسميه التلاعب الغربي (الأميركي) على حدود بلاده. وقد اعتمد بوتين على ورقة الغرب (الاستفتاء) في حله لأزمة شبه جزيرة القرم، وإقناع الرأي العام العالمي بأن المسألة إرادة شعب وأنها ديمقراطية، ولكن ليس شرطاً أن يوافق عليها الغرب. يقول ذلك وكأنه يرد على منتقدي منهجه بأن الضعيف في عالم اليوم هو من لا يستبد إذا ما أتيحت له الفرصة. هذا هو الحاصل في مختلف مناطق العالم: إيران في لبنان والخليج، ونظام بشار الأسد مع شعبه، وأردوغان في تركيا. من السهل تسجيل الإعجاب بأسلوب بوتين في إدارة أزمة القرم، كما أنه من السهل أيضاً تسجيل بعض الملاحظات أو الانتقادات على سياسته، باعتبار أن هناك آراء عالمية متباينة حول ضم جزيرة القرم الذي أعتقد أن تفاعلاته لم تنته بعد! ولكن ماذا بالنسبة لنا نحن العرب؟ وخاصة أن لدينا العديد من الأزمات الداخلية مثل «التغول الإخواني» في العديد من المجتمعات العربية، والخارجية مثل التعامل مع الجوار الجغرافي بمنطق حماية مصالحنا، وهي أمور تنتظر حسمها خلال «قمة الكويت» التي تختتم أعمالها اليوم. ردة فعل روسيا -أو بوتين تحديداً- كانت متوقعة من المراقبين السياسيين في العالم، على اعتبار أن لبوتين مواقف سياسية متشددة عندما يتعلق الأمر بالجوار الجغرافي، وكان قد قدّم درساً عام 2008 أثناء أزمة جورجيا، ويومها هدد بشنق الرئيس الجورجي ساكاشفيلي الذي اعتدى على سكان إقليم أبخازيا. جديد بوتين هو طريقته في إنهاء أزمة القرم، فلم تكد الأزمة تبدأ حتى ظهرت حملة تطالب باستقلال شبه الجزيرة عن أوكرانيا، وهي منطقة استراتيجية لها، وكأن بوتين يريد خنقها. كما تابعنا تحركات القوات الموالية لروسيا للسيطرة على المراكز الاستراتيجية في القرم، خاصة مركز القوات البحرية والسيطرة على القاعدة العسكرية واعتقال قائد القوات البحرية. أما الجانب القانوني في ضم شبه الجزيرة فهو الاستفتاء على وضعها. ولم تكن هناك خيارات كثيرة أمام الشعب: إما حكم ذاتي وإما الانضمام إلى روسيا، وكانت نتيجة الاستفتاء 93.6 في المئة. سلط العالم الضوء على «سيناريو وإخراج» أزمة جزيرة القرم. فالولايات المتحدة اكتفت بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا ورجال أعمال روس. وهناك من اقتنعوا بالموقف الروسي من الضم، وعلى رأسهم وزير الخارجية الأميركي في السبعينيات هنري كيسنجر، الذي طالب الغرب بتفهُّم أن أوكرانيا ليست جارة لروسيا بقدر ما أنها كانت ذات يوم جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وأن أوكرانيا ذاتها هي الجسر الحقيقي بين أوروبا وروسيا. ويشير التصرف الروسي في أزمة القرم إلى نقطتين رئيسيتن: الأولى أن سيناريو إنهاء بوتين لأزمة القرم يظهر أنه كان جاهزاً ومُعداً سلفاً وبشكل دقيق في كل جوانبه. وهذا أحد الأعمال الاستراتيجية التي تجيدها مراكز صناعة القرار في العالم، وذلك عندما تضع تصورات «لبؤر» يُحتمل نشوء أزمات فيها، وبالتالي فإن معالجتها تتم في أقل وقت وبأقل تكلفة. النقطة الثانية، أن هناك فراغاً سياسياً عالمياً، وبالتالي بدأ بوتين يصنع واقعاً جديداً في الاستراتيجية العالمية وفي مناطق العالم المختلفة. التغير الحاصل في الوضع الروسي هو الانتقال من حالة الانكفاء الداخلي إلى العودة إلى ترتيب الوضع الدولي، وهذا الوضع ليس نابعاً من عبقرية خاصة بالروس وبوتين، وإنما من تراجع الاستراتيجية الأميركية في العالم. ولم تعد هناك شكوك في وجود خطط لدى روسيا تمهد الأرض أمامها لاستعادة نفوذها على الساحة العالمية. ومن ناحية التعبير عن الثقة، فإن اللغة الجديدة التي استخدمها بوتين في التعامل مع الغرب، عندما أعلن العقوبات الاقتصادية، أنه قام بفتح حساب في أحد أصغر بنوك روسيا، وهي رسالة تدل على تهكم وسخرية. بوتين بدأ يجد نفسه قوة سياسية في مواجهة الغرب. أعتقد أن الأمر في صورته الكاملة ناجم عن تناقضات الغرب في التعامل مع روسيا، بسبب ضعف الدولة القائدة في العالم -الولايات المتحدة- وبالتالي فإن القوة الروسية تستغل هذا التناقض في مواجهة التلاعب السياسي. كما أن الأمر ناجم عن الاختلافات حول من يمثل مصدر تهديد، على اعتبار أن للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، موقفاً من الأزمة يختلف عن الموقف الأميركي، بل إن الحكومة البريطانية ليست مع الموقف الأميركي بالكامل، وهو ما يؤدي إلى ارتكاب الأخطاء الاستراتيجية بين الحلفاء. في مقابل ذلك، هناك أكثر من عامل ساعد روسيا على الاستفادة من المواقف الغربية. فهناك فهم روسي لطريقة تفكير الغرب، وبات السيناريو متكرراً، ولذا فإن ردة الفعل الروسية كانت واضحة.. الحسم الروسي كان هو القرار المناسب والسريع مقابل التحرك الغربي البطيء منذ فترة، وفي ملفات مختلفة، فكانت النتائج خسارة الغرب العديد من الجولات لصالح روسيا. أرى أن الوضع يقارب نسبياً الوضع العربي، وهو أمر تجب الاستفادة منه من أجل التفكير في طريقة تعاملنا مع قضايانا، وبالتالي إعادة تخطيط مواقفنا الاستراتيجية. لقد اتبعت روسيا للوصول إلى هذه المواقف العديد من الخطوات، بعضها يتعلق بالحياة اليومية للروس، فهناك حملة للتخلص من الإرث الاجتماعي القائم على التصلب في المواقف. وهناك محاولة لتقديم المجتمع الروسي بوصفه مجتمعاً لم يعد ينتمي إلى حقبة الأيديولوجية الاشتراكية أو الشيوعية، بل إن محركه هو البحث عن المصالح الوطنية. والجديد الآخر في روسيا هو «عدم التخلي» عن الحلفاء، مثلما حدث مع نظام صدام حسين ونظام معمر القذافي، وبالتالي فإن تدخل روسيا لدعم الأوكرانيين ذوي الأصل الروسي كان واضحاً وصريحاً، والأمر نفسه يحصل مع سوريا اليوم، وكذلك إيران. اليوم تُختتم أعمال القمة العربية بدولة الكويت، وتوجد العديد من الملفات العربية تحتاج إلى مواقف تقوم على حماية المصالح الوطنية للعرب. هناك مؤشرات سياسية على الأرض تقول إن استمرار حالة العجز العربي لا يخدم المصالح الوطنية العربية.