لطالما ارتبطت النشأة في ظروف الفقر بضعف القدرات التعليمية وقلة الإيرادات على مدار العمر. وثمة أدلة تشير إلى ارتفاع خطر الإصابة بالاكتئاب والإدمان وأمراض أخرى في سن البلوغ. وحتى بالنسبة لهؤلاء الذين ينجحون في التغلب على بداياتهم المتواضعة، فإن المعاناة من الفقر في بداية العمر ربما تترك أثراً مستمراً، وتسرّع في ظهور علامات الشيخوخة وتزيد من خطر الأمراض «التنكّسية» -مثل الزهايمر- مع التقدم في السن. وحالياً، يعيش طفل من بين كل خمسة أطفال أميركيين في الفقر، غير أن سبيل التدخل -إن وجد- دائماً ما ينطوي على مصاعب سياسية. وبينما يهتم العلماء بالربط بين الفقر والصحة العقلية، فإنهم كثيراً ما يواجهون مشكلة أكبر تتمثل في ندرة نسبية في التجارب التي تخضع للاختبار ومقارنتها بحالات تدخل محتملة. لذا، فعندما افتتحت قبيلة «الشيروكي» من الهنود الحمر في منطقة جبال «سموكي» الكبرى في شمال كارولينا، عام 1996، «كازينو»، وجدت عالمة الوبائيات في كلية الطب بجامعة «دوك»، جين كوستيلو، فرصة عظيمة لإجراء دراسة. وكانت القبيلة قد قررت توزيع حصة من الأرباح بالتساوي بين ثمانية آلاف عضو ينتمون إليها، ومن ثم، تساءلت كوستيلو عن النتائج النفسية التي سيغيرها كسب أموال إضافية بين أسر «الشيروكي» الفقيرة. وعندما تم افتتاح الكازينو، كانت كوستيلو تتابع بالفعل 1420 طفلا ريفياً في المنطقة، ربعهم ينتمون إلى «الشيروكي»، منذ أربعة أعوام. ووفر لها ذلك مقياساً أساسياً قوياً، حيث كان يعيش نحو خُمس الأطفال الريفيين من غير الهنود محل دراستها، في الفقر، مقارنة بما يزيد على نصف الأطفال «الشيروكي». وبحلول عام 2001، عندما بلغت أرباح الكازينو ستة آلاف دولار للفرد سنوياً، تراجع عدد الأطفال الشيروكي الذين يعيشون تحت خط الفقر بمقدار النصف. وكان الأطفال الأشد فقراً أكثر عرضة لمخاطر الإصابة باضطرابات نفسية، بما في ذلك مشكلات سلوكية وعاطفية، لكن بعد أربعة أعوام فقط من بداية توافر الإمدادات المالية، لاحظت كوستيلو أن حالات تحسن ملحوظة بين هؤلاء الذين خرجوا من دائرة الفقر. وتراجعت معدلات تكرار المشكلات السلوكية بين هؤلاء الأطفال الذين انتشلتهم أموال الكازينو من براثن الفقر بنسبة 40 في المئة، لتقارب النسبة بين الأطفال الذين لم يعانوا أبداً من الفقر. ومن ناحية أخرى، لم يبد أطفال «الشيروكي» الذين كانوا أغنياء بالفعل أي تحسن، واتضح أن الإمدادات المالية أفادت الأطفال الأشد فقراً. وعندما نشرت كوستيلو دراستها للمرة الأولى في عام 2003، كان المتخصصون في مجال الصحة العقلية حائرين بشأن ما إذا كان الفقر يسبب مشكلات نفسية أم أن المشكلات النفسية تفضي إلى الفقر. وعليه، أدهشت النتائج كوستيلو نفسها، لاسيما أنها لم تكن تتوقع أن يسفر تغير الوضع المادي عن إحداث اختلاف كبير. وأخبرتني كوستيلو قائلة: «كان المتوقع أن تكون للتدخلات الاجتماعية آثار ضئيلة نسبياً، لكن في هذه الحالة كانت الآثار مرتفعة بدرجة كبيرة». وأبقت كوستيلو مع زملائها على متابعة الأطفال، وتوصلت إلى حدوث تراجع في الجرائم الصغيرة التي يرتكبها الشباب من قبيلة «الشيروكي»، كما تحسنت معدلات التخرج من المدرسة الثانوية بشكل ملائم. وبحلول عام 2006، عندما نمت الإيرادات المالية إلى نحو تسعة آلاف دولار سنوياً لكل عضو، توصلت كوستيلو إلى ملاحظة أخرى هي أنه كلما وصلت الإيرادات المالية مبكراً في حياة الطفل، كلما كانت صحته العقلية أفضل في المراحل المبكرة من سن البلوغ. وكانت كاستيلو قد بدأت بثلاث فئات أعمارهم في التاسعة والحادية عشرة والثالثة عشرة. وعندما تواصلت معهم حين كانت أعمارهم بين التاسعة عشرة والحادية والعشرين، وقد استقلوا بحياتهم، وجدت أن هؤلاء الذين كانوا أصغر سناً عندما حصلوا على الأموال استفادوا بدرجة أكبر، وكانوا أقل بنحو الثلث تقريباً في احتمال تعرضهم للإدمان والمشكلات النفسية عند البلوغ، مقارنة بالمجموعة الأكبر سناً من أطفال «الشيروكي» وجيرانهم من الأطفال البيض الريفيين في الفئة العمرية نفسها. ومن جانب آخر، لم يبد الأطفال الشيروكي في الفئات العمرية الأكبر، الذين كانوا في الرابعة عشرة أو السادسة عشرة، عندما بدأت تصلهم الإيرادات المالية، أي تحسن مقارنة بنظرائهم من البيض الريفيين. وبدا من الواضح أن الأموال تأخرت كثيراً كي تحدث تغييراً في المسارات التي اتخذتها حياة هؤلاء المراهقين. لكن ما هو التغيير الذي أحدثه تغيير الدخل بالتحديد؟ أشارت اللقاءات المستمرة مع الآباء وأطفالهم إلى وجود متغير واحد بصورة خاصة، إذ بدا أن الأموال، والتي تراوحت بين ثلث وربع دخل الأسر الفقيرة في إحدى المراحل، أدت إلى تحسن في جودة الأبوة. وتتذكر فيكي برادلي، إحدى الأعضاء والمسؤولة الصحية في القبيلة، مرحلة إنشاء الكازينو وما قبلها، وتوضح أن كثيراً من أعضاء قبيلة «الشيروكي» كانوا يعملون بجد ولفترات طويلة أثناء الصيف، ثم يظلون بلا عمل عندما تختفي الوظائف في فصل الشتاء. وأكدت أن الإيرادات المالية خففت من حالة التوتر الناجمة عن تقلب الدخل بدرجة كبيرة بين الصيف والشتاء. وأفادت برادلي بأن كثيراً من أعضاء القبيلة كانوا يستخدمون الأموال في دفع الفواتير لأشهر قليلة مقدماً، بينما اشترى آخرون ملابس مدرسية لأطفالهم، أو حتى هدايا في الأعياد. وأظهرت بعض الدراسات على الحيوانات أن الضغوط في بداية الحياة يمكن أن تكون لها آثار طوال العمر، وأن التنشئة في كنف الأم يمكن أن تحول دون حدوث هذه الآثار. موسيز فيلازكويز-مانوف ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سرفيس»