خلال الأسبوع الماضي وقبل أن يقوم بوتين بضم منطقة القرم الأوكرانية إلى روسيا، سألتُ المتخصصة في بوتين، «فايونا هيل» من مؤسسة بروكينجز، عن الخطوة التالية التي يمكن أن يتخذها الرئيس الروسي، فأجابتني قائلة: «إنه يتخذ موقفاً هجومياً، ذلك أنه يعتقد أنه صاحب الامتياز، ويبدو من غير المحتمل أن يتوقف عند هذا الحد». وقد تبين أنها على صواب. فيوم الثلاثاء قبل الماضي، وقع بوتين اتفاقية الضم في حفل احتضنته قاعة ازدانت بالإعلام الروسية بالكريملن بينما كانت الحشود تعبِّر عن ابتهاجها في الخارج في الساحة الحمراء. وفي خطاب تميز بنبرة تحد واضحة، أشار الرئيس الروسي إلى أن هذه الخطوة لا تعمل سوى على إعادة القرم إلى الوطن الأم إذ قال مخاطباً الحضور: «إن القرم عادت الآن». بوتين، ومن خلال استغلاله لمشاعر الروس القومية التقليدية ورغبتهم في أن يُنظر إليهم باعتبارهم قوة عظمى، حسَّن وضعه السياسي الداخلي، وقد تمكن من القيام بذلك في وقت يشهد فيه الاقتصاد الروسي تباطؤاً ملحوظاً. وفي هذا الإطار، حدد استطلاع للرأي أجراه «مركز ليفادا» معدل الرضا الشعبي عن أداء بوتين في 72 في المئة – وهو معدل يفوق معدل الرضا الشعبي عن أداء الرئيس أوباما مثلاً. وبالنظر إلى هذا الدعم والتشجيع الشعبيين، فإنه يبدو من المستبعد أن يتوقف الزعيم الروسي عند هذا الحد. وقد يكون هدفه التالي هو تأمين مصادر الطاقة للقرم، ومعظمها يوجد في شرق أوكرانيا وجنوبها، وهما منطقتان تعيش فيهما أعداد مهمة من السكان الروس أيضاً. ولكن ذلك ليس كل شيء؛ ذلك أن هدف بوتين المركزي كرئيس، حسب «هيل»، هو استعادة النفوذ الروسي على أكبر قدر ممكن من تراب الاتحاد السوفييتي القديم، بدءاً بأوكرانيا. والواقع أن روسيا قد لن تسعى لضم مزيد من الأراضي الأوكرانية بالضرورة، ولكن بوتين مصمم على ضم البلد إلى اتحاد أوراسيا الذي يخطط له بدلا من الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق، تقول «هيل»، التي ساهمت في تأليف كتاب «السيد بوتين: عميل في الكرملين» الذي حظي بإشادة واسعة: «هذه هي تركته.. وهذا هو جوهر رئاسته وغايته». فهذا هو ما يفسر لماذا لم يكن بوتين مستعداً للوقوف موقف المتفرج في وقت كانت فيه أوكرانيا متمردة تجنح نحو شراكة اقتصادية رسمية مع الاتحاد الأوروبي. وهذا هو ما يفسر أيضاً لماذا سيواصل ممارسة الضغط على كل من شرق أوكرانيا - حيث معظم السكان موالون لروسيا - وعلى الحكومة التي تناوئ روسيا على نحو يمكن تفهمه في كييف. ومن بين الخطوات التي يمكن أن تقدم عليها روسيا أيضاً ضم ترانسنيستريا، وهي دولة انفصالية تقع على الحدود الغربية لأوكرانيا. وكانت قد انفصلت عن مولدوفا، رغم أنه لم يتم الاعتراف بسيادتها من قبل معظم البلدان، وتربطها الآن بروسيا علاقات وثيقة. وتقول «هيل» في هذا الصدد: «انتبهوا إلى هذه جيداً.. إنها طريقة أخرى يمكن أن يخلق بها بوتين مشكلة للحكومة في كييف». والواقع أن النزاع في أوكرانيا، في جوهره، يتعلق بمخاوف بوتين بقدر ما يتعلق بطموحاته. فبوتين يعتقد أنه يقوم بالذود عن مصالح روسيا ضد غرب يجنح نحو التوسع وتأكيد ذاته. ففي 2008، على أي حال، كان حلف «الناتو» يسعى نحو جعل أوكرانيا عضواً فيه، ويرفض الفكرة التي مؤداها أن على كل بلد أن يتجه نحو الديمقراطية واقتصاد السوق وفق الأسلوب الغربي. ذلك أنه بالنسبة للزعيم الروسي، فإن الديمقراطية تشبه الفوضى؛ كما أنه «يعتقد أن الغرب لم يعد يستحق أن يحاكى كنموذج اقتصادي»، تقول «هيل»، وخاصة بعد الأزمة المالية الأميركية في 2008. بعبارة أخرى، أن بوتين ينظر إلى القرن الحادي والعشرين من خلال الأعين الباردة والحذرة لروسي واقعي، حيث ينظر إليه بشكل مختلف عن الطريقة التي ينظر إليه بها الزعماء الغربيون. ولنأخذ هنا على سبيل المثال التهديد الأخير بعقوبات اقتصادية من أوروبا والولايات المتحدة. فبوتين يعتقد أن الغرب سيتردد قبل أن يقوم بفرض عقوبات قاسية على الاقتصاد الروسي نظراً للمصالح المالية الكثيرة لأوروبا في موسكو (وهو محق بشأن ذلك، حتى الآن). كما يعتقد أن الغرب سيمل من فرض العقوبات قبل أن تشعر روسيا بأي حاجة للتراجع. وفي هذا السياق، تقول هيل: «إن الرسالة التي يبعث بها بوتين هي كالتالي: إننا نعتقد أنكم تضرون بمصالحنا، ولكن قدرتنا على تحمل الألم أكبر مقارنة معكم»، مذكرة بأن والدي بوتين نجيا من حصار الحرب العالمية الثانية لمدينة لينينجراد، عندما اضطر بعض الروس لأكل العشب حتى لا يموتوا جوعاً - وهو حدث أشار إليه بوتين ذات مرة باعتباره دليلاً على قوة وصلابة بلده تحت الضغط. أوباما والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وحلفاؤهما كانوا يأملون أن يؤدي التهديد بالعقوبات إلى ثني بوتين عن إرسال جنود إلى القرم، ولكن تهديداتهم لم تأت أكلها. كما كانوا يأملون أن يثني فرض عقوبات محدودة بوتين عن ضم القرم، ولكن ذلك لم يُحدث أي تأثير أيضاً. وعليه، فيمكن القول إننا إزاء مشكلة غير متكافئة: ذلك أن الأمر مهم بالنسبة لبوتين وشعبه أكثر مما هو مهم بالنسبة للغرب. فبالنسبة للأميركيين والأوروبيين الغربيين، يمثل سعي روسيا لتأكيد قوتها مصدر غضب وتهديداً للنظام الدولي، ولكنه بعيداً جداً عنا. أما بالنسبة لبوتين، فإنه يمثل العلاج لمشاعر الاستياء القومية الروسية والتركة التي يريد أن يتركها كرئيس. ثم إنه يؤمن بأنه يستطيع مقاومة أي عقوبات قد يرغب الغرب في فرضها والصمود في وجهها. وقد يكون على حق في ذلك. دويل مكمانوس محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»