أثارت الأحداث الأخيرة في أوكرانيا وما ارتبط بها من أزمة شبه جزيرة القرم مجدداً أسئلة مهمة حول السياسة الخارجية الأميركية منها مثلاً ما يتعلق بدرجة رشادة هذه السياسة وقدرتها على التعلم وازدواجية معاييرها. فالولايات المتحدة قوة عظمى في كل ما يتعلق بعناصر القوة، ومع ذلك فهي ترتكب بانتظام أخطاء جسيمة صحيح أنها تدفع ثمنها مادياً ومعنوياً ولكنها في الوقت نفسه تسبب للعالم أيضاً أضراراً فادحة، وقد تكون كارثتها في فيتنام في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته نقطة بداية مناسبة في هذا الصدد. فقد تكبدت الولايات المتحدة في فيتنام خسائر فادحة، تمثلت في التكلفة الباهظة للحرب، ناهيك عن عشرات الألوف من القتلى والجرحى والمفقودين، وقد ظلت تلك الحرب تمثل عقدة أميركية منعتها من أي تدخل مسلح في أي من بلدان العالم. وقد بقيت هذه العقدة مستحكمة حتى تمكن الرئيس الأميركي المحنك جورج بوش الأب (1989-1992) من حلحلتها بمناسبة الغزو العراقي للكويت عام 1990 فقد قادت الولايات المتحدة في عهده التحالف الدولي الذي أخرج القوات العراقية من الكويت (يناير- فبراير 1991)، ولكن خليفته بيل كلينتون (1993-2000) لم يتخذ سوى خطوات محدودة في هذا الشأن. ومع وقوع أحدات 11 سبتمبر 2001 تحرر بوش الابن في أولى سنوات حكمه من عقدة فيتنام بغزو شبه فوري لأفغانستان ثم العراق 2003. وربما كانت عمليتا الغزو هاتان بداية تقويض الدور الأميركي المنفرد بشؤون العالم، إذ كانت مقاومة الغزاة هي بداية التآكل في هذا الوضع الأميركي نتيجة الخسائر البشرية والتكلفة المادية، والأهم من ذلك ما بدا من رفض الرأي العام في الشعوب التي ابتليت بالسياسة الأميركية والمشروع الأميركي. ومع ذلك فإن السياسة الخارجية الأميركية لا يبدو أنها تعلمت شيئاً، فقد راهنت مع الاتحاد الأوروبي على جذب أوكرانيا إلى الصف الأميركي الأوروبي بعيداً عن العلاقة الخاصة مع روسيا التي كانت أوكرانيا حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي جزءاً منها أو بالأحرى من الاتحاد السوفييتي الذي ضمهما معاً بالإضافة إلى ثلاث عشرة جمهورية اتحادية أخرى الأمر الذي أوجد بين هذه الجمهوريات روابط عضوية قوية وبالذات من المنظور الأمني. وعندما نجحت عملية الإطاحة بالنظام الموالي لروسيا بدعم أميركي- أوروبي كان من الواضح أن أحداً في منظومة صنع القرار في السياسة الخارجية الأميركية لا يدرك حقيقة الأوضاع في أوكرانيا على الأقل من منظور أن جنوب أوكرانيا ليس كشمالها إذ إن سكان شبه جزيرة القرم الذين تغلب الأصول الروسية عليهم لا يمكن أن يكونوا راضين عما تم من إطاحة للنظام المتعاون مع روسيا لحساب نظام موالٍ للغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، وهكذا بدأ الرفض الشعبي الواسع في شبه جزيرة القرم للتطورات التي وقعت في كييف وتم تنظيم استفتاء شعبي حول البقاء في أوكرانيا أو الانفصال عنها والانضمام إلى روسيا وقد كان وحسم الاستفتاء مسألة هذا الانضمام ووقع الرئيس الروسي القانون القاضي بذلك مما يثير المخاوف الغربية من أن يكون هذا بداية لاستعادة وضع روسيا في إطار الاتحاد السوفييتي. وهكذا تسببت السياسة الأميركية مجدداً في تفكيك دولة جديدة نتيجة خياراتها غير الرشيدة التي يبدو وكأن صانعيها لا يدركون حقائق بديهية عن البلدان التي تتجه إليها هذه السياسات. وبالمناسبة فإن حالة السياسة الأميركية تجاه أوكرانيا تشير أيضاً إلى استمرار ازدواجية المعايير في هذه السياسة، فعندما وقعت الثورة الشعبية الهائلة في مصر في 30 يونيو 2013 بعد عام من انفراد «الإخوان المسلمين» بحكم مصر وتم عزل الرئيس السابق بمساندة القوات المسلحة أصرت الإدارة الأميركية على أن ما وقع في مصر «انقلاب»، وبلغ بها الحال إلى فرض عقوبات على النظام الانتقالي وصلت إلى درجة وقف تسليم طائرات عسكرية إلى مصر والاستيلاء على مروحية مصرية أرسلت للولايات المتحدة للصيانة. ومع ذلك فقد تصرفت على نحو مخالف بدعمها حركة المعارضة في كييف للرئيس المنتخب والإطاحة به على رغم الفارق الهائل بين شعبية تلك الحركة وبين ما وقع في مصر في 30 يونيو. بل لقد وصل التخبط في السياسة الأميركية إلى حد استشهاد وزير الخارجية الأميركية بالتطورات المصرية -التي حاولت السياسة الأميركية إجهاضها- للتدليل على أن الديمقراطية لا تتحقق بالضرورة من خلال صناديق الانتخاب. وقد أسرفت الإدارة الأميركية وقيادات الدول الأوروبية في إطلاق التهديدات بعزل روسيا دولياً واستبعادها من كافة الآليات التي تجمع بينها وبين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بل جرى التلميح إلى القيام بعمل عسكري في مواجهة ما حدث من تطورات انتهت بضم القرم ولم تهتز شعرة واحدة لروسيا فهي دولة كبرى تتكافأ نووياً مع الولايات المتحدة وقوتها العسكرية التقليدية ليست موضع شك ووضعها الاقتصادي شهد تحسناً فائقاً منذ تولي رئيسها الحالي بوتين رئاستها فأعاد الاعتبار للقوة العسكرية الروسية وكذلك للاقتصاد الروسي الذي انهار بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ووصول يلتسين إلى سدة الحكم. وتدرك روسيا جيداً مصالحها وعلى رأسها المصالح الأمنية التي تهددها السياسة الأميركية بسبب إصرارها على اجتذاب الدول التي كانت يوماً ما جزءاً من الاتحاد السوفييتي. وتدرك روسيا كذلك الإخفاق الأميركي المنتظم في السياسة الخارجية. ولو اكتفينا بالسنوات التي انصرمت من القرن الحادي والعشرين فإن الفشل تكرر في أفغانستان والعراق وإيران وسوريا ومصر مؤخراً، ولماذا نذهب بعيداً ولدى روسيا نفسها تجربة قريبة مع السياسة الأميركية تجاه جورجيا التي كانت يوماً ما «جمهورية سوفييتية». في أبريل 2008 وعدت قمة «الناتو» جورجيا بالانضمام إلى الحلف، وقد ردت موسكو على هذا التطور بمزيد من تطبيع العلاقات مع إقليم أوسيتيا الجنوبية الذي يطالب بالانفصال عن جورجيا. ودعم هذا التوجه الانفصالي، وفي يوليو من السنة نفسها قامت روسيا باستعراض للقوة تمثل في انتهاك طائرات روسية مقاتلة المجال الجوي الجورجي فوق أوسيتيا الجنوبية، وفي الثامن من أغسطس انتقلت عدوى الحماقة إلى السياسة الجورجية فاجتاحت القوات المسلحة الجورجية إقليم أوسيتيا الجنوبية، وعلى الفور ردت روسيا بإرسال فرقتين مدرعتين تدعمهما طائرات مقاتلة وتمت السيطرة على عاصمة الإقليم واختراق الأراضي الجورجية وقبل أن تنسحب أقامت مناطق عازلة حول أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا التي كانت بدورها تطالب بالانفصال. وقد أُرغت الإدارة الأميركية وأزبدت مهددة كالعادة بعزل روسيا وملمحة إلى تدخل عسكري ولكن الموقف الروسي كالعادة أيضاً كان صارماً فصرح الرئيس الروسي آنذاك ديمتري مدفيديف بأن روسيا مستعدة لقطع العلاقات مع حلف «الناتو» إذا لم يعد راغباً في التعاون معها لأن «الناتو» هو المستفيد من هذا التعاون وليس روسيا، وأن روسيا لن تتردد في مهاجمة جورجيا مجدداً إذ استفزتها حتى لو كانت في حلف «الناتو»، وفي 26 أغسطس اعترفت روسيا بجمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا مع عجز أميركي تام عن فعل أي شيء. فمتى تتعلم السياسة الأميركية؟