إن نظرة واحدة إلى مناطق التوتر في عالمنا العربي كافية لأن نكتشف أن القاسم المشترك في ذلك كله هو تنظيمات الإسلام السياسي أمل عبدالله الهدابي لا شك في أن معظم الشعوب العربية والإسلامية قد عانت طويلاً خلال الحقبة الاستعمارية التي امتدت طويلاً، ثم سقط الكثير أيضاً من هذه الشعوب في تجارب حكم لم تنجح في تحقيق تطلعاتها وآمالها التنموية، ولكن ما يحدث في السنوات الأخيرة من تغيرات وتحولات في العديد من الدول العربية لا يبشر بأن هذه الدول تمضي في الاتجاه الصحيح، خصوصاً بعد أن قفزت تنظيمات الإسلام السياسي إلى صدارة المشهد واختطفت أحلاماً طالما راودت الشباب بأن التغيير سيكون إلى الأفضل، ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أنهم وقعوا ضحية لتجار الدين، وأن أحلامهم قد وُئدت بأيدٍ نجحت في خداعهم وتضليلهم، بل استخدمتهم في تحقيق مآربها وأهدافها الذاتية. ربما تختلف تفاصيل المشهد الراهن في العديد من الدول العربية، ولكن يبقى القاسم المشترك في هذه التفاصيل أن هناك من ينازع «الدولة» شرعيتها ويطرح نفسه بديلاً لها بقوة السلاح، فهذه التنظيمات تمارس سلوكاً متكرراً في دول عربية مختلفة، فهناك من يربط شرعية الدولة بتطبيق الشريعة الإسلامية من منظوره الذاتي الضيق القائم على فكر إقصائي ليس لشركاء الوطن من أصحاب الديانات الأخرى فقط، بل ومن المسلمين الذين لا يعترفون بتوجهاته الدينية المتشددة، وهناك من يسعى إلى نسف فكرة الدولة وأركانها المؤسسية واختزالها في ميليشيات جهادية متخذاً من مسمى «الدولة» عنواناً وشعاراً لعصابات ظلامية تقتات على الدماء. مشهد عبثي بامتياز يجتاح بعض دولنا العربية والإسلامية، والفوضى لم تعد عنواناً للفتاوى الدينية فقط، بل انتقلت إلى الاجتهاد الفقهي، بعد أن نسفت الفوارق الواضحة لكل ذي بصيرة بين الإرهاب والجهاد، لدرجة إصدار أحدهم في مصر فتوى بجواز القيام «بكل ما يمكن من أعمال سلمية لرفع الظلم والضرر»، ومن هذه «الأعمال السلمية»، في رأيه، حرق سيارات الشرطة ومداهمة منازل الضباط وحرق ممتلكاتهم الشخصية، وقال صراحة على إحدى القنوات الفضائية التي تبث من أقمار يفترض أنها تابعة لدول وليس لعصابات من كواكب أخرى: «يجوز حرق سيارات وبيوت ضباط الشرطة، وهذا لردعهم، وهو من السلمية»!. هذا التحدي السافر لشرعية الدولة ورفع السلاح في مواجهتها يعني أننا في مواجهة خطر يفوق التطرف الديني، بل نواجه خطر تكريس وضعية اللادولة التي أصبحت «حالة» عابرة للجغرافيا في منطقة الشرق الأوسط، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات استراتيجية تستحق معالجات عاجلة، لأن نشر الرعب ورفع السيوف فوق رقاب العباد لفرض الأمر الواقع وسلب الدولة شرعيتها ليس خلافاً سياسياً، بل إننا في مواجهة ظاهرة إجرامية أمنية لا يمكن حلها عبر صيغ تفاهم أو معالجات سياسية، لأن ذلك يعني اعترافاً من الدولة بشرعية من حمل السلاح في وجهها وفرض منطقه وإرادته عليها. إن نظرة واحدة إلى مناطق التوتر في عالمنا العربي كافية لأن نكتشف أن القاسم المشترك في ذلك كله هو تنظيمات الإسلام السياسي التي دمرت دولاً بشكل كامل كما حدث في الحالة الأفغانية، ودفعت أخرى إلى حالة شلل مزمنة وجمود لا يوشك أن ينتهي، مثلما حدث في العراق واليمن والسودان وسوريا، بينما تسعى جاهدة لأن تدفع بعض الدول إلى أتون الفتنة مثلما يحدث في مصر. أحد أهم جوانب المشكلة في مناطق شتى من العالم العربي أن هناك صراعاً بين شرعية «الدولة» وشرعية «الجماعة»، وحول فكرة الولاء والانتماء، وهل يكون للدولة أم للجماعة؟ وهذا الصراع يتخذ من الدين غطاء خادعاً يتستر به، فالفكر التنظيمي للجماعات المتشددة لا يرضى بمنطق الدولة، ويرى فيه انغلاقاً يتصادم مع الفكر العابر للقارات الذي تعتنقه هذه التنظيمات والجماعات ويمثل جوهر نشاطها الحركي، فعلى سبيل المثال نلحظ أن الكثيرين ينخدعون في كتابات بعض منظري جماعة الإخوان المسلمين عن فكرة «الدولة»، ويعتبرون أن هذا الحديث يعني اعترافاً بمفهوم الدولة الحديثة الذي استقرت عليه الأدبيات والأعراف السياسية والمواثيق الدولية منذ أن أُقر منتصف القرن السابع عشر الميلادي عقب توقيع معاهدة وستفاليا. ولكن التدقيق في أدبيات الجماعة يشير إلى التباسات عدة حول مفهوم الدولة منها، أن مفهوم الدولة-الأمة لم يكن ينطبق بالنسبة إلى العالم الإسلامي إلا خلال مرحلة «دولة المدينة الأولى» في بدايات الإسلام، ولكن مع تطور العصور لم يعد هناك مجال للتطابق بين مفهومي «الدولة» و«الأمة»، بل باتا عنصرين منفصلين، ولم يعد من الوارد اجتماعهما في كيان سياسي واحد وفقاً للمتعارف عليه في الأدبيات السياسية الحديثة، وبالتالي فإن مفهوم «الدولة» من منظور الإخوان المسلمين يختلف عن منظورها الحديث، ويرون أنها جزء من كيان أشمل هو «الأمة الإسلامية». وهنا يأتي التداخل بين العام والخاص، ومن هنا تحديداً يمكن فهم المقولة الشهيرة للمرشد السابق للجماعة محمد مهدي عاكف «طظ في مصر.. وأبو مصر.. واللي في مصر»، فالمسألة لا تتعلق إذاً بكلمات عابرة يمكن أن تقال في لحظات انفعال، بل هي راسخة في الوعي الجمعي لأفراد التنظيم وقيادته، فالأمر يرتبط أساساً بنظرة «الجماعة» للوطن والدولة. وإذا كانت تلك هي النظرة الاستعلائية الدونية المستهترة بدولة بحجم مصر، بما تمتلك من حضارة وتاريخ ومقومات، فما بالنا بالنموذج الموازي لهذه النظرة الدونية في دول أخرى أقل حجماً وتأثيراً ومكانة مقارنة بمصر؟! مثل هذا الفكر الهدام هو معول هدم للدول والأوطان، ويهدد بتمزيق أوصالها وتشريد شعوبها، ومن هنا تأتي أهمية الجهد الذي انطلق مؤخراً لتحصين عالمنا العربي والإسلامي في مواجهة مثيري الحرائق الدينية والفتن الطائفية، فالتوصيات الصادرة عن المنتدى العالمي «تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة»، الذي عقد في أبوظبي في التاسع والعاشر من الشهر الجاري يؤسس فعلياً قواعد معالجة ناجعة ومدروسة للتطرف والإرهاب وتعزيز السلم في المجتمعات العربية والإسلامية، كونه قد تناول هذه الإشكالية في إطار شامل ولم يقتصر على أحد أبعادها دون الآخر، ولاسيما ما يتعلق بالأطر الفكرية والثقافية التي تتغذى عليها هذه الظواهر، التي ينبغي استئصال جذورها وتجفيف منابعها.