هل المثل العليا والقيم الأخلاقية الرفيعة ثابتة في حياة البشرية عبر العصور؟ وهل كانت هذه القيم في زمن ما قبل التاريخ، وفي زمن حمورابي وقدماء المصريين والرومان واليونان والفرس والعرب والجرمان واللاتين والفايكنج.. هي نفسها اليوم؟ وإذا كانت هذه المثل التي ننزلها في أنفسنا ومجتمعنا هذه المنزلة السامية، لها مثل هذا الإجلال والتبجيل، فهل من الحكمة ربطها بالقوانين وفرضها على الناس بقوّة السلطان؟ «حاول منذ القديم وحتى الآن، نفر من أصحاب النوايا الطيبة، المطالبة بدمج القانون مع مبادئ الأخلاق»، يقول الدكتور حازم الببلاوي، وهو يناقش تطور الجانب التشريعي في الليبرالية، ثم يضيف: «وقد تنبه إلى هذه المشكلة علماء القانون منذ فترة طويلة في دراستهم لما أسموه العلاقة بين القانون الوضعي والقانون الطبيعي. فإذا كان القانون الوضعي ينظم العلاقات الاجتماعية ويحظى بمساندة الدولة وحمايتها، فإنه ينبغي أن يتوخى مبادئ العدالة والمثل العليا التي تتفاعل في الضمير الجمعي، وهو ما أطلق عليه القانون الطبيعي. فالقانون الطبيعي باعتباره تعبيراً عن الضمير العام الجمعي لمُثل العدالة والمبادئ السامية يمثل الهدف الأسمى للقانون الوضعي، يقترب منه دون أن يندمج فيه». (عن الديمقراطية والليبرالية، القاهرة، 1993، ص 32). ويحذِّر الببلاوي من مخاطر النظر إلى القانون والأخلاق كشيء واحد! إذ «يؤدي إعلان التطابق بين القانون الوضعي ومبادئ الأخلاق أو القانون الطبيعي إلى نتائج في غاية الخطورة على مستقبل التقدم والارتقاء. أما النتيجة الأولى، فهي حبس الأخلاق والمبادئ السامية في نصوص، وأما النتيجة الثانية فهي أن تجميد الأخلاق والمبادئ السامية في نصوص يحول دون التطور والتقدم». ويصعب علينا هنا، في ظل ما يلفت الببلاوي أنظارنا إليه، أن ندرك حقيقة سياسية تاريخية، وهي أن معظم الأنظمة الدينية والعقائدية التي اضطهدت بعض أو كل أتباعها، وصادرت الحريات العامة، وضيقت مجالات حقوق الإنسان، انطلقت من اختراق مبدأ الفصل بين القانون والأخلاق! فقد أنبأنا التاريخ، يقول الببلاوي، بأن «أسوأ أنواع الاستبداد هي تلك التي تمت باسم المبادئ والمثل العليا، فتاريخ محاكم التفتيش في أوروبا في العصور الوسطى، والنظم المذهبية في القرن العشرين، من حكومات استندت إلى الفكر النازي أو الشيوعي إنما قد استندت جميعها إلى أفكار وفلسفات لإقامة المجتمعات المثالية. فهي تارة حكم الدين، وتارة أخرى إحياء أفكار هيجل ونيتشة عن دور الدولة التاريخي ومكان الجنس الآري، وتارة ثالثة الخضوع لحتمية التاريخ وإقامة المجتمع الشيوعي». فالمبادئ «الأخلاقية» التي فهمها قساوسة ورهبان محاكم التفتيش أجازت لهم وضع قوانين ظالمة ضد كل من هو ليس مسيحياً، وهذا ما نراه اليوم مع التنظيمات الإرهابية في العالم العربي والتي ترى في نفسها الجماعة الناجية والإسلام الحق. والدولة القومية التاريخية التي روَّج لها الفاشيون والنازيون، أجازت لهم باسم تنقية الأصل والعنصر وهيمنة العرق الآري إعلان الحروب واضطهاد البشر والقتل والدمار. والإيمان بالحتمية التاريخية ومجيء الشيوعي ورسالة الطبقة العاملة، أجازت لدولة ستالين مصادرة حرية الشعوب، وإرسال الملايين إلى السجون ومعتقلات سيبيريا، وشل الحياة الفكرية والثقافية والسياسية في الاتحاد السوفييتي. ولا تعد مثل هذه التجارب جديدة في تاريخ لإنسان، حيث يقول الببلاوي: «حاولت أسبرطة» قديماً أن تبني مجتمعاً فاضلا على أساس من النظام والانضباط، وذلك في مواجهة أثينا التي آمنت بالحرية والتطور، فماذا كانت النتيجة؟ اندثرت أسبرطة رغم انتصاراتها العسكرية، ولم تترك أثراً ولا فكراً، واستمرت أثينا مشعلا وحملت لواء الحضارة اليونانية. ولم تكن الفضيلة والنظام في أسبرطة سوى غطاء ظاهري أو غلالة رقيقة أخفت وراءها حقيقة أبنائها المنغمسين في الكذب والخداع والجهل». لكن هل القانون، والحال هذه، تشريع بلا أخلاق؟ وهل يستفيد المجتمع حقاً من العزل الصارم بين القانون والقيم الأخلاقية؟ يقول الببلاوي: «إذا كان للقانون مجال، وللأخلاق مجال آخر، يتداخلان أحياناً ويفترقان أحياناً أخرى، فمن الضروري الاعتراف بهما معاً، واحترام حدودهما دون خلط أو اختلاط». فالمجتمع لا يقوم ولا يستقيم دون قانون، كما أنّ القانون وحده لا يكفي بل لا بد وأن يستكمل بغيره من قواعد الأخلاق، ولا مجال للخلط بينهما. ومن الواضح أن الليبرالية الحديثة تبذل كل ما باستطاعتها للالتزام برأي الشعب، ولكن ضمن مؤسسات التعبير السياسي. «ولا تزعم النظم الديمقراطية الليبرالية أنها تمثل في كل لحظة اتجاهات الرأي العام، فقد يخذلها هذا الرأي العام بعد فترة قصيرة، ومع ذلك تستمر في سياستها، وعلى أن تتاح الفرصة في وقت معقول للعودة إلى صناديق الانتخاب والاحتكام إلى رأي القاعدة الشعبية. وهنا ينبغي التأكيد أن هدف الديمقراطية الليبرالية ليس مجرد التأكيد على المشاركة الشعبية، بل أيضاً وبنفس القدر ضمان كفاءة الحكم». وتعطى الديمقراطية الليبرالية أهمية خاصة لوجود مؤسسات منتخبة، وتوزيع وتوازن السلطات والمساءلة البرلمانية، وكما قال «أكتون»، فإن «السلطة مَفْسَدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة». ولا تعني دعوة الليبرالية إلى التغيير أن يكون مثل هذا التغيير سريعاً متكرراً، فـ«أحد أهم عناصر الحكم الديمقراطي هو توفير قدر من الاستقرار لتحقيق الكفاءة في الحكم». وينفي الببلاوي أن تكون الديمقراطية الليبرالية «حتمية تاريخية»، كما أشيع بعد الحرب الباردة، بل إن «فكرة الحتمية -تاريخية أو غير تاريخية- تتناقض في أساسها مع جوهر المنطق الليبرالي الذي يستند إلى حرية الفرد وقدرته المستمرة على الإبداع والخلق». ويضيف أن دولا ومجتمعات في العالم الثالث خاضت حروب التحرر الوطني سنين طويلة، فإذا بها بعد انسحاب المستعمر الأجنبي تقع فريسة لإرهاب محلّي لا يقل قسوة ووحشية عن حكم الأجنبي. ونحن نرى اليوم ومنذ عشر سنوات في العراق، ومنذ الثورة الأخيرة في ليبيا، تصاعداً للعنف والإرهاب ضد الأشخاص والسلطة الجديدة على حد سواء، ولم يؤد سقوط الديكتاتورية في البلدين إلى انتعاش الديمقراطية، بل تنامت تيّارات دينية متزمتة معادية لليبرالية والتسامح.