بعد خطاب الرئيس بوتين في الكرملين، مرحباً ومبرراً ضم موسكو لشبه جزيرة القرم، تسأل الآن الصحافة الغربية عما سيفعله بوتين بعد ذلك؟ وإلى أي حد سيمضي؟ وقد أجاب على هذا السؤال بوتين نفسه في خطابه، عندما أكد أن بلاده ليست لها مطالب أخرى تسعى إليها في أوكرانيا، لافتاً إلى أن القرم أصبحت قضية لأن الغرب «تجاوز الخط الأحمر»، في إشارة إلى جهود الولايات المتحدة وأوروبا الرامية إلى ضم أوكرانيا لحلف «الناتو»، والتي تم التخلي عنها في مقابل اتفاقية مع روسيا لتوحيد ألمانيا. ولا يصدق الأوكرانيون -أو على الأقل الغربيون منهم الذين يتحدثون اللغة الأوكرانية- أن بوتين لا يعتزم المضي قدماً في ما هو أبعد من ذلك. وقد أعلن رئيس الوزراء الجديد في أوكرانيا أرسيني ياتسينيوك، المدعوم من واشنطن، أن بوتين بات الآن «يهدد العالم بأسره». وقد يكون الرأي الأكثر تواضعاً، وإن كانت له دلالة كبيرة، هو ما نقلته صحيفة «لوموند» الفرنسية عن مراسلها في كييف، الذي أكد أنه بعد استفتاء يوم الأحد الماضي، هناك مجموعات من الأوكرانيين تتطوع الآن لمحاربة الجيش الروسي، الذي تزعم تقارير أنه محتشد على الحدود. وقد أوضح أحد جنود الاحتياط في الجيش الأوكراني أنه وأصدقاءه سيشكلون جيشاً موازياً، لأنه «ليست لديهم ثقة» في وزير دفاع بلادهم، واصفاً إياه بأنه «أحمق لن يدعهم يتدربوا حتى باستخدام قذائف ذخيرة حيّة». ولكن يتساءل المرء، ما الداعي كي يكون لبوتين مزيد من المطالب؟ ولاسيما أنه حتى الآن حقق فوزاً في كل شيء، فقد كان استفتاء القرم انتصاراً له، وكذلك كان خطابه في موسكو، الذي انطوى على ابتسامات ودموع الفرحة، متحدياً العقوبات الغربية. ومرة أخرى جعل بوتين نظيره الأميركي أوباما يبدو في موقف حرج، حيث احتج على انتهاك القانون الدولي بينما يدرك العالم أن الولايات المتحدة هي أكثر من يتجاهل هذا القانون. وتتمتع شبه جزيرة القرم بمناخ جيد وشواطئ وفنادق ملائمة ومناظر طبيعية جذابة، وعلاوة على ذلك، فهذه المنطقة قاعدة بحرية ظلت روسية على مدار سنوات طويلة، وقد وضعت فيها موسكو بالفعل استثمارات كبيرة، وتعتمد عليها البحرية الروسية في الوصول إلى المياه الدافئة. وأما بقية أوكرانيا فلا علاقة لها بذلك كله، وما يمكن أن تقدمه لروسيا ليس أكثر من المتاعب، أو هكذا أزعم أن هذا ما يعتقده بوتين، ومرة أخرى عرض الرئيس الروسي في خطابه مقترحات من أجل السلام، وهو ما قابلته واشنطن بازدراء. وبالطبع، لا تحمل أوكرانيا سوى القلق لموسكو، نظراً لكونها دولة مستقلة، كما أن الأقلية الروسية أو الناطقين بها هناك، والذين يعيشون غالباً في الشرق والجنوب على مقربة من الحدود الروسية، تعرضوا لحالة من الاضطراب بسبب كل ما حدث. وقد تواترت التقارير بأن قوات روسية تسللت في أزياء مدنية إلى المنطقة لتجهيز المنطقة للغزو والانضمام إلى روسيا. ولكن ليس ثمة تأكيد موثق لهذه التقارير من الصحفيين الغربيين أو الدبلوماسيين الأجانب هناك، إضافة إلى وجود أسباب كثيرة لاعتقاد أن ذلك غير قابل للتصديق. وأول الأسباب أن أي تحرك روسي آخر نحو التدخل في أوكرانيا، أو دلالة على طموحات بضمها، من شأنه إثارة رد فعل عسكري خطير وحاسم مباشرة من «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، الذي أرسل قوات كبيرة إلى بولندا وربما دول البلطيق. وسيكون من السهل إقناع «الناتو» بدخول غرب أوكرانيا بناء على طلب مساعدة من الحكومة الجديدة، سواء الحالية المعينة أو تلك التي ستنبثق عن انتخابات جديدة. وعلاوة على ذلك، طمأنت السلطات الحالية في كييف بالفعل موسكو بأنه لا يوجد تهديد أوكراني لروسيا، وأن أوكرانيا لن تنضم إلى «الناتو»، وهو التهديد الذي كان من بين الأسباب الرئيسة وراء اندلاع الأزمة الراهنة. ولطالما كانت هناك ضغوط غير رسمية أو شبه رسمية من الولايات المتحدة -وبولندا- من أجل ضم أوكرانيا إلى «الناتو» منذ ما وصف بـ«الثورات البرتقالية» و«الحمراء» قبل نحو عقد مضى. والسبب الثاني الذي يدعو للشك في أن روسيا ستتدخل في شرق أوكرانيا هو أن الاقتصاد الأوكراني في حالة يرثى لها، ويستبعد أن تريد روسيا، التي يعاني اقتصادها من الوهن، تحمّل أعباء دعم أوكرانيا أيضاً. ولاشك في أن اقتصاد كلا البلدين سيتضرر بشكل كبير، ولاسيما صناعات الطاقة، بسبب ردود الأفعال الانتقامية من قبل الغرب التي من المتوقع أن تعقب أي تحرك روسي عدواني. والحقيقة أن أوروبا الغربية تعتمد بشكل كبير على موسكو في إمدادات الغاز الطبيعي، إذ تبيع روسيا لأوروبا ثلث ما تستهلكه من الغاز، غير أن موسكو ستضرر هي الأخرى بشدة نتيجة أية خسارة في إيرادات مبيعات الغاز إلى الغرب. وينطبق ذلك أيضاً على مجموعة من العلاقات الصناعية واسعة النطاق بين موسكو وأوروبا، إذ تمتلك ألمانيا -وخصوصاً شركة سيمنز- استثمارات ضخمة في روسيا. وتخاطر فرنسا كذلك بخسارة فادحة إذا ما طبقت العقوبات على الطلب الروسي الأخير لبناء فرقاطتين جديدتين باهظتي الثمن، وتجري الأولى بالفعل الاختبارات التجريبية في الوقت الراهن. وقد طلبت البحرية الروسية هاتين الفرقاطتين بعد الحرب القصيرة مع جورجيا في عام 2008، موضحة أنها بعد امتلاكهما سيمكنها إنجاز مهام في غضون أيام قليلة بعد أن كانت تستغرق أسابيع في 2008. وتبدو بريطانيا الآن هي الخاسر الأكبر من تطبيق العقوبات، إذ أن أثرياء النفط الروس يمتلكون جميعاً -أو كانت لديهم- أموال في بنوك لندن، كانوا فد أخفوها في أراضٍ بريطانية أو جزر ترفع علم المملكة المتحدة، إلى جانب منازل فارهة في «ماي فير» و«كينسينجتون». وربما يعود هؤلاء الأثرياء إلى روسيا، إذا ما تدهورت الأوضاع، وإن عجزوا عن حمل أموالهم معهم، أو تحويلها إلى أي مكان آخر، ومن ثم ستحاصر العقوبات «وول ستريت» ولندن. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفيس»