من السهل التنبؤ بالأسوأ عندما يتعلق الأمر بمستقبل الاقتصاد الأميركي. فبالنسبة لليبراليين الذين يتخوفون من تصاعد وتيرة التفاوت بين الأميركيين ومصاعب الطبقة الوسطى، والمحافظين الذين يجزمون بأن المعركة ضد الفقر خسرت وبأن الأجيال المقبلة ستتحمل عبء الديون الثقيلة، أو حتى استطلاعات الرأي التي تعكس المخاوف من المسار الذي تسلكه البلاد.. يبدو في النهاية أن تراجع الاقتصاد الأميركي أمر حتمي لا فكاك منه. لكن ونحن نتوقع الأسوأ علينا أن نتذكر بأن هذه التحديات كانت دائماً معنا من قبل، كما أن التحسن الحالي في بعض المؤشرات والمتمثل في تراجع كلفة الرعاية الصحية، وانخفاض عجز الموازنة الفيدرالية، يبرهن أن الاقتصاد الأميركي قد يكون أفضل حالا من التوقعات المغرقة في التشاؤم، وليس فقط لنسبة 1 في المئة، بل لعموم الأميركيين. ولعله من الأسباب التي تدفعنا لإبداء التفاؤل بشأن المستقبل، أننا بدأنا ندرك أخيراً مدى السوء والتردي الذي آلت إليه الأوضاع في العقود الماضية بالنسبة للعامل الأميركي، بالنظر للأبحاث والاستطلاعات، وأيضاً بالنظر للتركيز الإعلامي والاهتمام السياسي. فبعد أن استفاد أغلب الأميركيين من رواتب مرتفعة خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي يطلق عليها الباحثون «النمو معاً»، شهدت العقود الأخيرة نكوصاً عن هذا المنحى، أو ما يسمى «النمو متفرقين». ومما يستدل به على هذا النمو المتفاوت والاختلال الواضح، تلك التقديرات التي تقول إن معدل الأجور في أميركا ظل هو نفسه من 1989 وحتى 2012، بحيث لم يتزحزح عن 51 ألف دولار في السنة، مع احتساب فارق التضخم. ومع أن السبب الرئيسي لهذا الجمود في دخل الأميركيين قد يكون امتناع الشركات عن رفع الأجور لانعدام الحاجة أو لغياب أي ضغط يجبرها على ذلك، يبقى السبب الآخر هو النسبة المتزايدة التي تدفعها الشركات كتعويضات صحية على الموظف، لاسيما أن أقساط هذه الأخيرة ارتفعت على نحو كبير في العقود الأخيرة. فالشركات تنظر إلى التعويضات باعتبارها الراتب مضافاً إليها أقساط التأمين الصحي التي تدفعها على الموظف، وهي بدلا من رفع الرواتب تزيد الأقساط التي شهدت ارتفاعاً في السنوات الفائتة. وقد أشارت إحدى الدراسات إلى أنه في حال انخفضت كلفة التأمين الصحي فإن الأسر الأميركية قد تدخر آلاف الدولارات سنوياً لتضاف إلى دخلها، لكن الجيد في الأمر أن هذه الكلفة بدأت في الانخفاض، حيث لم تشهد كلفة التأمين الصحي أي زيادة جوهرية في الآونة الأخيرة. وفيما يعزو البعض هذا التراجع إلى تبعات الأزمة الاقتصادية وركود النمو، يرى البعض الآخر أن السبب يكمن في السياسات الحكومية المتبعة والقائمة على خفض النفقات والإصلاحات الأخرى، فضلا عن التحولات التي يعرفها قطاع الصحة وتؤثر إيجاباً على النفقات. ولا ننسى أن تراجع الكلفة الصحية تزامن مع انخفاض ملحوظ في معدل البطالة، ما يعني أن مزيداً من الشركات ستتنافس على التوظيف، الأمر الذي سينعكس بدوره على مستوى الأجور التي لابد أنها سترتفع، بيد أنه ارتفاع لن يكون له جدوى إذا لم يجد الأميركيون وظائف جيدة يمتهنونها. وهنا يتفق الخبراء على أن التكنولوجيات الحديثة، وإن كانت قد أفادت المستهلك بالدرجة الأولى، فإن تأثيراتها السلبية على العمل وخلق الوظائف باتت واضحة. ومن بين السببين المرتبطين بتوفير فرص العمل، وهما كلفة التأمين الصحي، والتقدم التكنولوجي، يظل الأخير الأكثر حيوية، فرغم التنبؤات السابقة التي أثبت خطأها بشأن دور التكنولوجيا في كبح فرص الوظائف، يرى الباحثون أن التغيرات الجارية في المجال التكنولوجي لها بالفعل تأثير سلبي. فمن آلات المراقبة الذاتية في الفنادق والمنافذ إلى السيارات بدون قائد، لا شك أن التقنيات الجديدة ستقود حتماً إلى تراجع فرص التوظيف، بل إن مثل هذه التحولات ستكرس التفاوتات المجتمعية بين فئة متعلمة تعليماً جيداً تستطيع الاستفادة من المكتسبات التكنولوجية وبين فئة أخرى فاتها الركب، لذا ليس مستغرباً أن يكون التعليم هو المحدد الأول الذي ساعد الأميركيين طيلة نصف القرن الأخير على الترقي والازدهار. ومع أن عصر المبادرات الكبرى قد ولّى، مثل فكرة التعليم الإجباري التي أحدثت ثورة حقيقية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فهناك المزيد من العمل يتعين القيام به، خاصة أن الإحصاءات تقول بأن 30 مليون أميركي ممن تتجاوزت أعمارهم 18 سنة، غير حاصلين على شهادة الثانوية العامة، وأن 124 مليون أميركي لا يتوافرون على شهادة جامعية. ولو أن هؤلاء تمكنوا من تطوير مهاراتهم من خلال التعليم لأمكنهم الاستفادة أكثر من التطورات التكنولوجية، والمساهمة أكثر في الإنتاج؛ إلا أنه مع ذلك لا يمكن إنكار بعض التقدم المحرز في هذا المجال، حيث ارتفعت نسبة الطلبة الأميركيين الحاصلين على الثانوية العامة بين 1999 و2012 من 71 إلى 81 في المئة، كما أن نسبة خريجي الجامعات قفزت في العام 2012 إلى 31 في المئة مقارنة مع 25 في المئة عام 1999. وبالنظر إلى ما تتيحه الإنترنت من اتساع رقعة التعليم العالي، فمن المتوقع استمرار الزيادة في نسبة الخريجين. وبالطبع تلعب الحكومة الفيدرالية دوراً مهماً في دعم النمو الاقتصادي المؤدي إلى فرص العمل، وذلك من خلال الاستثمار في البنية التحتية والتعليم، وتخصيص التمويل الضروري لمجالات البحث والتطوير. وإذا كانت المؤسسة السياسية الأميركية، لاسيما الكونجرس، تجد صعوبة في إيجاد التمويل الضروري لهذه المبادرات، بعدما وصل العجز في الموازنة إلى تريليون دولار قبل بضعة سنوات، فإن الكونجرس أضحى اليوم في وضع أفضل بعدما انخفض الرقم وتراجع العجز. وما الاتفاق الذي توصل له الحزبان داخل الكونجرس حول الموازنة مؤخراً، إلا خطوة أولى في اتجاه استعادة زمام المبادرة لتمويل بعض البرامج الأساسية التي يرى خبراء الاقتصاد أن عوائدها مجزية في المستقبل. ------ زكاري جولدفارب كاتب أميركي متخصص في الشؤون الاقتصادية ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»