بعد مرور ثمانية أشهر ونصف تقريباً على سقوط «الإخوان» من على عرش مصر، لا تزال أسرار سنة حكمهم المريرة تتوالى، بعضها تكشفه الأجهزة الأمنية، وبعضها يظهر في ثنايا تحقيقات يجريها القضاء حول اتهامات متنوعة، وبعضها يكتبه أعضاء ينشقون تباعاً عن الجماعة، وتلتقطهم وسائل الإعلام، وهناك شهادات يكتبها غيرهم سواء من منافسيهم الحزبيين، أو النشطاء السياسيين، إلى جانب الكُتاب والصحفيين. في هذا الإطار، لم يستطع الأستاذ سعد القرش، الروائي والكاتب الصحفي، أن يقف صامتاً حيال الزلزال الرهيب الذي هز مصر على مدار ثلاث سنوات، بل تنقل بين الميدان والمكتب، ناهلاً مما يجري بين الناس وما استقر في رأسه من فهم وعلم ودراية وما عركته تجربته الذاتية الخالصة، ليسطر، بلغة أدبية فياضة، ثلاثة كتب ولدت تباعاً هي «الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير» و«أيام الفيسبوك.. مسائل واقعية في عالم افتراضي» ثم جاء كتابه الثالث: «سنة أولى إخوان.. وقائع وشهادة على 369 يوماً قبل اختفاء التنظيم»، ليغطي به سنة حكم جماعة «الإخوان»، ويهديه إلى «شهداء الثورة، وجرحاها.. مصابين وقابضين على الحرية، مراهنين على استكمال الطريق، وإلى أرواح الشيخ محمد عبده ويحي حقي وطه حسين وجمال حمدان ويوسف إدريس.. وأرواحنا»، ويبدأه بعبارة دالة للصوفي الكبير النفري تقول: «إنما أحدثك لترى، فإن رأيت فلا حديث». ويفاجئنا القرش بحكاية تحت عنوان «فتى يبحث عن يقين» تبين أنه كان من الممكن أن ينضم يوماً إلى صفوف جماعة «الإخوان»، ففي أول الصبا قرأ لأقلام من الجماعة فاهتز قلبه وفاض وجدانه وتعاطف معها، سالكاً الطريق الذي قاد كثيرين إلى قلب «الإخوان»، حين واصلوا السير فيه مستسلمين لما طالعوه أو مصدقين إياه أو متواطئين معه، وهنا يقول: «في إبريل 1979 جمادى الأولى 1399، وقفت ببداية طريق كان يفترض أن ينتهي بي إلى مكتب الإرشاد اشتريت مجلة (الدعوة) الشهرية الناطقة باسم جماعة الإخوان». ليخرج القرش من هذه التجربة مدركاً الأسباب والدوافع والخلفيات التي تجعل «الإخواني» على الهيئة التي ظهر عليها بعد ثورتي يناير ويونيو، فها هو يقول: «يتأكد لي الآن كيف تكونت عقيدة فتى في الثالثة عشرة، رأى العالم، كما يريد له الإخوان، مجرد فسطاطين، مسلم ينتمي بالضرورة إلى جماعة الإخوان، وآخر مسلم لا ينتمي إلى الإسلام الحق من وجهة نظر الإخوان، أو غير مسلم». وبعد هذه السنين الطويلة يقول إن: «إعادة قراءة مجلة الدعوة الآن تجعلني أكثر إشفاقاً على أي إخواني، باستثناء القيادات التي تتخذ الجماعة والدين قناعاً لتوجه رأسمالي متوحش». وأتصور أن هذه التجربة الذاتية مهمة وكاشفة، لأنها تكررت في حياة الملايين ممن حاول «الإخوان» أن يصطادوهم في ميعة الصبا، ولكل منهم حكاية، داخل أسوار المدارس أو في حرم الجامعات أو مباني المدن الجامعية أو المساجد ومعسكرات الكشافة والأندية الاجتماعية والرياضية والجمعيات الخيرية. بعضهم استجاب، لاسيما أولئك الذين لم يمتلكوا عقلاً نقدياً أو تميل نفوسهم إلى التعصب أو من وجدوا الرعاية المادية في كنف الجماعة، أو من ظنوا أن بقاءهم في صفوف «الإخوان» يمنحهم فرصة الدفاع عن الدين في وجه المتربصين به من كل جانب، كما صور لهم قادة الجماعة، وبعضهم غادر هذه المرحلة غير آسف عليها، ومن بينهم كتاب ومفكرون كبار نقدوا الجماعة بشدة، ويتذكرونها الآن، بعد كل ما جرى، بمزيد من التأمل والتدبر، مثلما فعل القرش، وهؤلاء لم تكسبهم الجماعة، ولم تكن حريصة عليهم لأنهم لن يمتثلوا لمبدأ السمع والطاعة ويجاروا ما يتم ويكونوا مع القطيع، ولهذا صار تنظيم «الإخوان» بمرور الأيام جسداً هائلاً بلا عقل، ودفع ثمناً باهظاً، كما رأينا ونرى، واستحق بالفعل اللقب الذي كان يطلق عليه دوماً بأنه يمتلك «جسم فيل وعقل عصفور». ولم يكتف الكتاب، الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية مؤخراً، بهذه التجربة، التي احتلت نحو خمس صفحاته الـ174، بل راح يوثق أحداثاً كان «الإخوان» طرفاً فيها أو تماسوا معها منذ جمعة الغضب 28 يناير 2011 حتى يوم إسقاط حكم مرسي في 3 يوليو 2014 بعد ثورة شعبية ثانية. ولم يستسلم الكاتب للتصورات الجاهزة التي تقول إن «الإخوان» قد انحرفوا عن طريق مؤسسهم واقعين في فخ أفكار سيد قطب المتطرفة والمتزمتة والتي مثلت إطاراً لأعمال عنف وإرهاب، بل يرى أن الدودة في أصل الشجرة، وأن أفكار البنا نفسها خلقت أرضية لهذا العنف وذاك التعصب، وهنا يستعرض الكاتب ما فعله التنظيم الخاص، الذي أسسه البنا نفسه ووضع لائحته الداخلية، من اغتيال معارضين للجماعة وهنا يقول في عبارة لافتة: «كشفت الكلمات عما يدور في الصدور، فلم تكن الدولة والشعب والثورة من مفردات جماعة كان سيد قطب نفسه يرى أن مؤسسها حسن البنا نسخة عصرية من مؤسس حركة الحشاشين الإسماعيلية». إن ما يميز كتاب سعد القرش، هو أنه يزاوج في توثيقه بين ما رآه عياناً بياناً وما سمعه بأذنه همساً وصراخاً، وشارك فيه عن رغبة ورضا، وبين ما كتبه آخرون في الصحف أو الدراسات والكتب أو ما قالوه له في جلسات ولقاءات خاصة، وهو المنهج ذاته الذي اتبعه في كتابه «الثورة الآن»، تلك الثورة التي جذبت أديباً، أنتج خمس روايات ومجموعتين قصصيتين، ليكتب عنها ثلاثة كتب، محاولا بها أن يلاحق أحداثها التي تتدفق بلا هوادة، وجعلته يعود إلى كتب ومراجع ولا يكتب بشكل انطباعي، أو بطريقة باردة، بل ينسب الكثير إلى «الإخوان» أنفسهم كي يدينهم، منطلقاً في خاتمة المطاف من أن وصولهم إلى الحكم ربما كان رحمة بمصر والعالم العربي، لأنهم انكشفوا في الوقت المناسب قبل أن يتمكنوا من المجتمع تماماً، وهو ما يعبر عنه قائلا: «خرجنا من تجربة الإخوان جرحى، وربما يستمر النزيف بعض الوقت، تلك ضريبة الاختيار بين التنظيم والدولة»، ثم يقتبس عن عباس العقاد عبارة وردت في كتابه الشهير «إبليس» تقول: «يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير.. كانت فاتحة خير بغير مجاز وبغير تسامح في التعبير».