د. عبدالحق عزوزي بين فضيحة التنصت وعلم الصحافة بذلك، أين هو مبدأ قرينة البراءة، ومبدأ التحفظ وعدم التشهير بالمدعى عليه قبل أن تثبت إدانته؟ ----------- تعيش فرنسا اليوم على إيقاع ضجة سياسية- قضائية- إعلامية لا سابق لها قبل أيام على موعد الانتخابات البلدية في البلاد، ولا تجد صحيفة ولا مجلة ولا قناة تلفزيونية غربية أو فرنسية بالخصوص إلا وتنقل الحدث باستدعاء قضاة سابقين، ورجالات دولة وسياسيين ومحللين من كل الاتجاهات، وملخص القضية كما ترجمتها إحدى الصحف أن: (رقعة قضية التنصت على الرئيس السابق نيكولا ساركوزي اتسعت لتطال الحكومة الاشتراكية التي اتهمها اليمين بالتجسس السياسي والكذب مطالباً باستقالة وزيرة العدل. يأتي هذا الهجوم المضاد من قبل المعارضة في وقت يواجه فيه اليمين الفرنسي سلسلة من الفضائح منذ أسبوعين تشمل ساركوزي وأيضاً مقربين منه وزعيم حزبه «الاتحاد من أجل حركة شعبية» جان فرنسوا كوبيه. وكانت وزيرة العدل كريستيان توبيرا التي تستهدفها المعارضة بشكل خاص، أكدت الاثنين أنها علمت من الصحف بقيام قضاة بالتنصت على الرئيس السابق (2007-2012). إلا أن رئيس الوزراء جان مارك ايرولت أوضح مساء الثلاثاء أنه تبلغ على غرار توبيرا في 26 فبراير ببدء إجراء قضائي وبالتنصت على ساركوزي، ولكنه شدد على أنه ليس على علم بـ«مضمون» التسجيلات. والأربعاء، أكد مدعي عام باريس فرنسوا فاليتي أنه أبلغ وزارة العدل في 26 فبراير ببدء التنصت موضحاً أن «هذه هي القاعدة» المتبعة في مثل هذه الحالات. ورد كوبيه بعنف الأربعاء بأن توبيرا «كذبت» و«ليس من الممكن أن تظل في منصبها. ولا مفر من استقالتها بعد أن صدر منها مثل هذا السلوك». ويواجه كوبيه اتهامات أيضاً بمعاملة تفضيلية لمقربين منه لجهة توقيع عقود للحزب. ومنذ أن كشفت صحيفة «لوموند» في أبريل 2013 أن ساركوزي أخضع للتنصت، واليمين يحاول استعادة توازنه من خلال التنديد تارة بـ«مؤامرة» وطوراً بـ«قضية دولة» أو بـ«عملية تجسس سياسي» تتورط فيها الحكومة الاشتراكية. وتأثر اليمين إلى حد كبير بعد الكشف عن قيام مستشار لساركوزي بتسجيل محادثات خاصة للرئيس السابق خلال توليه الرئاسة..». وهذه الوقائع تجعل أكثر من محلل يرى أن فرنسا دولة الحريات وحقوق الإنسان واستقلال السلطات عن بعضها بعضاً بدأت تمس في مصداقية مؤسساتها، فمبدأ استقلال السلطات مبدأ سامٍ في كل ديمقراطية، وإلا تراجعت قوة الدولة وتماسك أجزاؤها ومراقبة كل سلطة للأخرى. إن الاستقلالية هي التي تخلق المراقبة وتقوي عمل المؤسسات وتزكي عمليات التطور والتنمية. فالمستثمر الغربي عندما يأتي إلى أي دولة في شراكة مع واحد من أبنائها لابد وأن يطلع في البداية على مدى استقلالية القضاء وإلا رأى أن مصالحه المستقبلية قد تكون في خطر... فالقضاء المرتشي أو الذي يعمل بناء على التوصيات أو بناء على مراقبة السلطة التنفيذية لا يرجى حياده ويكون خطراً على نفسه وخطراً على الدولة... وحتى في الديمقراطيات الفتية فإن احترام الحريات العامة وحقوق الإنسان واستقلال القضاء شروط أولية لبناء وتقوية القشرة الحامية للدولة... فيخطئ البعض عندما يظن أن التحول الديمقراطي يصبح ممكناً بمجرد حلول انتخابات حرة وشفافة يصوت من خلالها الشعب على الدستور الجديد والحكام الجدد. إن استقرار قيم المحاسبة والمساءلة وترسخ مفاهيم الفردانية والمواطنة والتعددية وحقوق الإنسان والمساواة في سلوك الأفراد، يعد عاملاً محدداً لتطور بذرة الديمقراطية لأنها ستغرس في بيئة سليمة، وستسقى بماء التعقل، وستتغذى بمؤسسات شرعية ودستورية، وبعدم وجود استقرار تلك المفاهيم في ضمائر الناس وتصرفاتهم، سرعان ما يهن عظم الديمقراطية الوليدة وتقوى الصراعات ويكبر الشد والجذب بين فئات المجتمع الواحد بما قد يصل إلى حروب مسلحة داخلية، تأتي على الأخضر واليابس... فالديمقراطيات الفقيرة تتعدى الأنظمة السلطوية في أدائها الاقتصادي والاجتماعي، لأن المؤسسات تسمح بالتناوب السياسي وتشجع على المبادرة والانفتاح، وتتحسن في ظلها البرامج التنموية والاقتصادية، وتندثر المحسوبية الضيقة التي تعمي بصائر بعض الساسة عن السعي في رفاهية المجتمع، ويتصلب عود مبدأ «المراجعة والموازنة» (Checs and Balances) أي مراجعة مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية لبعضها بعضاً في سبيل الوصول إلى نقطة الموازنة لخدمة المصلحة العامة للوطن. وهذا يخالف توجه الأنظمة الاستبدادية، لأن الاحتكار السياسي فيها غالباً ما يولد الاحتكار الاقتصادي، وهذا ما يخلق الزبونية والمحسوبية ويضعف المنافسة والابتكار ويؤدي بالتنمية والتطور إلى وادي الهلاك. أنا لا أريد ازدراء القضاء الفرنسي واستقلاليته، فله تاريخ طويل من الاستقلالية وقوانيه قوانين صلبة ومتينة، ولكن بمراجعة القصص أعلاه فإن الساسة والسياسويين قد يدخلون مؤسسات الدولة في غيابات الجب ويوقعونها في تصرفات وإجراءات وعمليات سلطوية ولاديمقراطية... فبين فضيحة التنصت وعلم الصحافة بذلك، أين هو مبدأ قرينة البراءة ومبدأ التحفظ وعدم التشهير بالمدعى عليه قبل أن تثبت إدانته؟ وأين هو مبدأ استقلال السلطات عندما تدعي وزيرة العدل أنها لم تكن على بينة قبل نشر الخبر في جريدة «لوموند» الفرنسية لتتدارك فيما بعد (لأنها تعي جيداً مبدأ فصل السلطات) وتقول: أين هو المشكل إذا أخطأت أو أخطأ غيري في التواريخ؟! ثم من أعطى المعلومات السرية لجريدة لوموند الفرنسية؟ بمعنى أن هناك محركين خارج القانون يرتدون في غالب الأمر لبوساً سياسية ولا يظهرون شرهم وتكون عندهم المصالح السياسية قبل مصالح الدولة وهنا الكارثة.