الحرب شيء بالغ الغرابة يصعب فهمها عندما تحدث حقيقة، فهي أكثر من مجرد معركة تكون غامضة بطبيعتها، فالصراع المسلح يغير بصورة جذرية البيئة التي يحدث فيها، فيأكل الأخضر واليابس ولا ينجو أي من ملامح الحياة من تأثر سواء أكان الحب أو الصداقة أو النوم أو الثقة أو حتى المحادثات، وفي الحرب.. حتى الملل يكون غريباً. وفي النهاية انتهت حرب العراق، على الأقل بالنسبة للأميركيين، وهو ما يعني، أنه أصبح بمقدورهم بدء محاولة فهمها، لكن ليس من حيث المفاهيم التاريخية، إذ أن كتباً كثيرة قد تناولت بالفعل جذور الحرب وتكاليفها وتداعياتها واسعة النطاق، لكن من حيث المفاهيم الإنسانية، كيف بدت الحرب؟ وماذا فعلت بعقول الناس؟ وكيف غيرت حياة الناجين منها؟ وفي كتابه الجديد «إعادة الانتشار»، يشرح فيل كلاي، جندي البحرية الأميركية السابق الذي خدم في حرب العراق، ظواهر إنسانية لا حصر لها نتجت عن اصطدام الشباب الأميركيين المسلحين بدولة أجنبية محطمة. ونجح المؤلف بذكاء في تسليط الضوء على الأساليب التي أثارت بها حرب العراق مجموعة فريدة من المشاعر والمآزق والمآسي، ويصور العراقَ ليس فقط كمسرح للحرب، ولكن أيضاً كمعمل للظروف الإنسانية الاستثنائية، المرفقة بكثير من الصخب والسخرية والهزيمة والحزن. ويسرد فيل كلاي في كتابه «إعادة الانتشار» مجموعة من القصص، حدث بعضها في العراق، وبالتحديد في محافظة الأنبار التي خدم فيها المؤلف كضابط للشؤون العامة، بينما وقعت بقية القصص في الولايات المتحدة، بعد أن عاد الجنود إلى وطنهم. وتنطوي كل قصة على مأزق مختلف، غير أنها كلها تقريباً سُردت بأسلوب ينقل مشاعر الشد والجذب التي أثارتها الحرب، والتي كانت غالباً ما تنتاب الشخص نفسه في آن واحد. والرسالة التي يحملها الكتاب في طياته أن «حرب العراق كانت مغامرة خاطئة بالأساس، إذ بدأت بناءً على معلومات مخابراتية خاطئة ومن دون رؤية ترشد الجنود بعد أن دمروا الدولة». ولسان حال المؤلف عبر القصص التي سردها أنه «أياً كان ما فعلناه هناك، فإننا لم ننتصر»، وحتى إن لم يصرح بذلك، فإن جميع الحكايات التي سردها حتى المضحك منها، تكشف عن تشوش وقلق وشعور بالهزيمة واليأس. وفي إحدى القصص، يقول كلاي: «قابلنا بوب في العراق، وكان قبل الحرب معتداً بنفسه ويعمل لحسابه الخاص، وكان لفترة طويلة يضرب بأي هدف كبير عرض الحائط، وكان يفضل بدلا من ذلك التركيز على بعض المشاريع التافهة، مثل تعليم تربية النحل». وتابع: «لكن بوب كانت له رؤية وجودية عن حرب العراق، فكان السبب الأساسي بالنسبة له هو الحصول على راتب 250 ألف دولار سنوياً وثلاثة إجازات مدفوعة مقابل إنجاز قليل من المهام». ويتناول المؤلف أيضاً قصة رودرجويز، جندي البحرية الذي يزور القس المرافق لكتيبته، لأنه كان قلقاً من أن رفاقه قد فقدوا صوابهم في ظل التوتر والقلق بسبب الحرب، ومن ثم، يقتلون المدنيين والمتمردين على السواء. وإن كان رودرجويز لديه سبب ما يدعو للقلق، فإن عريفاً أخبر القس قائلا: «إن الشيء الوحيد الذي أرغب فيه هو قتل العراقيين، فعلى الأقل قتلهم يُشعرك بأنك تفعل شيئاً، وليس فقط مجرد تضييع وقت». وفي الواقع، يركز الكتاب على التجربة الأميركية في العراق وليس التجربة العراقية ذاتها، ويشير إلى أن إحدى الحقائق المهمة في حرب العراق، وهي أن جميع أعبائها تقريباً تحملتها نسبة ضئيلة من السكان، مضيفاً: «إذا كنت في الجيش، فإنك تعمل ويعني ذلك أنك تكون بين القوات المنتشرة مرة بعد أخرى، بينما كان بقية الأميركيين يمضون في حياتهم وكأن الدولة في سلام». ويقول أحد الأشخاص في كتاب كلاي: «إن الشيء الغريب في أن تكون جندياً متقاعداً، على الأقل بالنسبة لي، أنك تتوهم نفسك أفضل من بقية الناس». ويضيف: «لقد خاطرتَ بحياتك من أجل شيء أكبر من نفسك، فكم من الناس يمكنهم فعل ذلك؟ فأنت اخترت الخدمة في الجيش، وربما أنك لا تفهم السياسة الخارجية الأميركية أو لماذا خضنا الحرب، وربما أنك لن تفهم ذلك، لكن ذلك ليس هو المهم، فقد رفعت يدك وقلت: أريد أن أموت من أجل هؤلاء المدنيين عديمي القيمة». وائل بدران الكتاب: إعادة الانتشار المؤلف: فيل كلاي الناشر: بنجوين برس تاريخ النشر: 2014