مثل أي شيء وأي طاقة يمكن أن نعزز الخيال السياسي إن امتلكناه أصلاً. وابتداء فإن «أسباب سلوكنا الذي يشمل نشاطاتنا العقلية مثل الإدراك يمكن أن نجدها بصورة نهائية فيما ورثناه من عوامل وفي تاريخنا البيئي، وفيما نقابله في حياتنا من مصادفات تحدث في البيئة المحيطة بنا» وإذا كان ما ورثناه قد حدث بالفعل، ولم تكن لنا يد فيه، فإن ما نكسبه، يمكننا أن نغير فيه أو نعدل، وفق ما يمنحنا أقصى فائدة ممكنة، فتتحول «عوائد» البيئة أو المجتمع إلى إضافة تثري ذهن الإنسان، وتوقظ مشاعره، وتلهب حسه، فينطلق خياله، ليوظفه في مختلف مجالات الحياة، ومنها بالقطع السياسة وشؤونها. والسؤال حول سبل تنمية الخيال السياسي؟ يتطلب قبله الإجابة على سؤال آخر هو: كيف نعزز التفكير الإبداعي؟ وهو تساؤل، كان ولا يزال، يؤرق العلماء في مختلف المجالات، ومنهم مايكل ميكالكو الذي خصص كتاباً كاملاً ليطرح فيه الإجابة متنقلاً بين حقول معرفية شتى وتجارب لعلماء وأدباء وفنانين، ليصل في النهاية إلى خريطة متكاملة أو استراتيجية للتفكير الإبداعي، يقسمها إلى جزءين، الأول هو «رؤية ما لا يراه الآخرون» من خلال معرفة كيف نرى؟ وإعطاء التفكير شكلاً مرئياً. والثاني هو «التفكير فيما لا يفكر فيه الآخرون» عبر التفكير بسلاسة وطلاقة، وصنع توليفات مبتكرة، ووصل ما ليس متصلاً، والنظر إلى الجانب الآخر، والنظر داخل العوامل الأخرى، والعثور على ما لا نبحث عنه، وإيقاظ روح التعاون. ويمكن تدريب الباحث على امتلاك قدرة تقنية معقولة على جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها واستخلاص النتائج، ويمكن كذلك استنهاض أو استثارة القدرة الكامنة لديه على التخيل والاستشراف. ومن واقع تجربته يحدد عالم الاجتماع ريتشارد ميلز عدة خطوات لهذا، صاغها هو بإسهاب وربما ببعض الغموض، ولكن يمكن جلاؤها وإعادة صياغتها بشكل أكثر سلاسة ودقة على النحو التالي: 1- إعادة ترتيب الملفات التي لا رابط بينها بأدق مستوى من الدقة والواقعية، بحيث تمتزج الأفكار، التي كنا نظن للوهلة الأولى أن بينها افتراقاً أو خصاماً تاماً. 2- تجنب الوقوع في فخ تعريفات المفاهيم والاصطلاحات التي تؤدي إلى ميوعة الفهم ومن ثم تمييع الخيال، وهذا يتطلب استعمال القواميس والمعاجم والموسوعات والكتب المساعدة بحنكة ودقة في البحث عن عمق المعاني، بحيث نصل إلى تحديد صارم وجلي للمشكلة التي نريد حلها أو الفكرة التي نسعى إلى توضيحها، ونصوغ هذا في أقل كلمات دالة ومباشرة وذات طابع إجرائي. 3- يجب أن نعلم أن كثيراً من المفاهيم العامة التي نتوصل إليها، قد تكون قد صيغت من قبل في أنماط أو قوالب معينة، وبالتالي يكون وضع تصنيف جديد لها هو بداية تحقيق تطور مغاير ومثمر. ومن هنا فبدلاً من مطابقة ما توصلنا إليه مع ما استنتجناه أو وضعه غيرنا من قبل، يمكننا أن نبحث عن القواسم المشتركة بين ما لدينا وما تركه الآخرون، ونحدد ما تميزنا نحن به، وننقد ما طرحوه، دون الوقوع في وهم يقينية الأشكال التوضيحية والرسوم البيانية والمعادلات الرياضية، لأنها في الحقيقة ليست الوسيلة الوحيدة لتبيان العمل أو شرح الفكرة أو طرح الموضوع. 4- من الضروري التفكير في الأمور والأشياء والمعاني والأفكار والمواقف المضادة لتلك التي نتخذها أو نتبناها، فبضدها تتميز الأشياء وتنجلي. فإذا كنا بصدد دراسة البؤس والتقتير علينا أن ننظر إلى الإسراف والتبذير، وإذا كنا ندرس اليأس والقنوط علينا أن ندرس الأمل والرجاء. فبهذا نصبح أكثر تحكماً في المادة التي تحت أيدينا، وتوفر لنا رحلة الذهاب والعودة بين الأمر ونقيضه استنارة من دون شك. ولكن هذا التقابل لا يترك للتخمين أو النظرة العابرة والعشوائية وإنما يجب أن يتم وفق أدوات منهجية محددة، وقد يكون من المفيد أن نستخدم الإحصاء، أو ننظر أحياناً في حالات مقارنة من خارج البيئة التي ندرسها. 5- يجب عدم الاستسلام للقوالب المنهجية الجامدة، والتعامل معها على أنها أصنام لا ينبغي المساس بها، وتجنب الغموض كوسيلة للهرب أو التملص من استخراج الأحكام المحددة عن المجتمع، وعلينا ألا نكتفي بالاهتمام بالاستخلاصات العامة والأساسية والكبرى من التاريخ، بل علينا أن نغوص، ولو قليلاً في التفاصيل والجزئيات، ونفهم العلاقات القائمة بينها، ولا نقصر جهودنا على إعداد دراسات متتالية عن وسط اجتماعي أو قضية سياسية جزئية بل ننظر إلى الأبنية الاجتماعية الكبرى، ولتبقى عيوننا مفتوحة دوماً على أننا في النهاية ندرس أموراً تخص الإنسان، ولذا فإن الإلمام بالطبيعة البشرية غاية في الأهمية، والتعامل مع الفرد بوصفه فاعلاً تاريخياً واجتماعياً ضرورة. ويقدم «جون إلستر» نصائح أخرى يسميها «أمثلة للتصرف على أساس النتائج البعيدة زمنياً»، إن أمعنا النظر فيها سنجد أنها تساعدنا أيضاً على تنمية الخيال، إذ يجملها في ثلاث طرق ذهنية وسلوكية هي: أ- التراجع للقيام بقفزة أفضل إلى الأمام: أو التراجع خطوة كي نتقدم خطوتين. وتجسد إحدى القواعد الاقتصادية هذا الموضوع بجلاء، وهي تلك التي ترى أنه كي نستثمر من أجل زيادة الاستهلاك في المستقبل، يتعين علينا أن نستهلك أقل في الوقت الحالي. وإذا كانت الحالة الأدنى الراهنة ستبقي الإنسان على قيد الحياة، فالمكاسب التي ستعود عليه من الحالة الأعلى القادمة ضخمة بما يكفي لتبرير الخسارة التي لحقت به نتيجة اختياره الوضع الأدنى. ب- التمهل: فهناك أمور كثيرة يؤدي التمهل فيها إلى تحسن ما نسعى إلى الحصول عليه، أو على تعزيز فرصنا في اختيار الأفضل. ج- التصويب مباشرة نحو الهدف: فنحن حين نسعى إلى إصابة هدف متحرك ينبغي ألا نصوب على المكان الذي يوجد فيه الهدف، ولكن على المكان الذي سيحل فيه عندما يصل إليه السهم أو تخرقه الرصاصة. وهذا معناه أننا حين نصوب نعمل حساب الحركة إلى المستقبل وليس وضع الهدف في زمانه ومكانه الراهن. ولعل «النظرية النسبية» تعطي فهماً أشمل لهذه النقطة، وتبرهن على صحتها ودقتها. وحتى يكون بوسعنا أن ننمي خيالنا السياسي فعلينا ابتداء أن نزيح الكوابح التي تلجم الخيال أو تكبته، وأولها العقل، الذي يصر أحياناً على فرض حدود وهمية على طاقته اللامحدودة، أو يوحي لنا دوماً بالحذر ويقيد رغبتنا في المغامرة. وثانيها البيروقراطية التي تميل بطبيعتها إلى عمل روتيني واتباع أساليب جامدة وفق نماذج عتيقة نسبياً، ومقاومة أي ميل إلى التغيير أو أي فكرة مبتكرة خصوصاً إن جاءت من خارج المؤسسة. وهذه الآفة يعاني منها الجميع في العالم العربي، ولاسيما في الدول التي تتسم باتساع جهازها البيروقراطي وقدمه وتضخم دوره في تسيير دفة الأمور. وعلينا كذلك أن نستفيد من كل ما تتيحه لنا ينابيع التخيل من استقراء التاريخ، وتراكم المعرفة، والاستبطان، والعمل بروح الفريق، والعصف الذهني المفتوح والعميق، وعطاء الدراسات عبر النوعية، والخيال المنطقي المحدد، والخيال الإبداعي المنطلق.