فوجئ البعض وربما كثيرون بقرار السعودية والإمارات والبحرين القاضي بسحب سفرائها من الدوحة، غير أن المتابع للسياسة القطرية الخارجية والتحول اللافت فيها وكذلك ردود الفعل الخليجية، لن يجد في هذا القرار أدنى مفاجأة، وقد ذكّرنا البيان الصادر عن الدول الثلاث بهذه المناسبة بالقمة الخليجية المصغرة التي عُقدت في نوفمبر الماضي التي تم الاتفاق فيها على «الالتزام بمبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وعدم دعم كل من يعمل على تهديد أمن واستقرار دول المجلس من منظمات أو أفراد سواء عن طريق العمل الأمني المباشر أو عن طريق محاولة التأثير السياسي وعدم دعم الإعلام المعادي»، وعبرت الرياض وأبوظبي والمنامة عن الأمل في أن «تسارع دولة قطر إلى اتخاذ الخطوات الفورية للاستجابة لما سبق الاتفاق عليه ولحماية مسيرة دول المجلس من أي تصدع». ويلاحظ أن بيان الدول الثلاث قد أعقب الاجتماع الدوري لوزراء خارجية دول المجلس في الرياض في 4 مارس، الذي ذكرت التقارير أن محاولات جادة قد تمت فيه لإقناع قطر بأهمية وضع اتفاق نوفمبر 2013 موضع التنفيذ، إلا أن كافة هذه المحاولات لم تفض إلى التزام قطر بالاتفاق. لم يكن القرار مفاجئاً إذن لأن مقدمات سبقته لا تعود فحسب إلى القمة الخليجية أو اجتماع وزراء الخارجية المشار إليهما وإنما ترتبط بالتحول اللافت الذي طرأ على السياسة الخارجية القطرية في عهد الشيخ حمد واستمر في ظل خليفته الشيخ تميم. ومنذ بدأ هذا التحول كان واضحاً أن القيادة القطرية تتصور أن لقطر دوراً إقليمياً قيادياً، وأصبحت قطر بموجب هذا التصور طرفاً في كافة الصراعات الداخلية في الدول العربية بدءاً بالصومال ومروراً بالسودان واليمن وانتهاءً بفلسطين. كما بدت مواقفها معارضة للغزو الأميركي للعراق 2003، والعدوان الإسرائيلي على لبنان 2006 ثم على غزة في أواخر 2008 وأوائل 2009. وأخيراً كان التدخل القطري الواضح في بلدان «الربيع العربي» من تونس إلى مصر واليمن وليبيا وسوريا. في البدء لم تثر هذه السياسة قلقاً كثيراً لأن معظم الدور القطري تركز في عمليات وساطة بين فرقاء متناحرين داخل دولة عربية أو أخرى، ومن ثم كان دوراً يعمل على الاستقرار وليس للفوضى. ولكن الشق الثاني في سياسة قطر انطوى على مفارقة واضحة، فالعلاقة العضوية بين قطر والولايات المتحدة والدافئة بينها وبين إسرائيل تثير علامات استفهام جوهرية، وفي مرحلة «الربيع العربي» كان انحياز قطر لما يسمى بقوى الإسلام السياسي صريحاً على الرغم من افتضاح الطابع الاستبدادي الإرهابي لمعظم هذه القوى، وهو ما سبب استياءً شديداً من الرأي العام في البلدان التي سيطرت فيها على مقاليد الأمور أو على الأقل كان لها دور نافذ أو قيادي فيها، وقد هدد ذلك بموجة من عدم الاستقرار في الوطن العربي. وجنباً إلى جنب مع السياسة السابقة برزت قناة «الجزيرة» كذراع سياسية لهذه السياسة، وفي البدء أثارت القناة الإعجاب لحرفيتها العالمية، ولكن الحرفية بدأت تتوارى بالتأكيد لصالح المشروع القطري، وشق التشويه والكذب طريقهما إلى شاشتها، وكم شعرت قطاعات متزايدة من المصريين بالمرارة وهي تشاهد عليها أكاذيب صريحة وصوراً ملفقة وآراء حاقدة، ووصل الأمر إلى حد الكراهية العميقة لهذه القناة ومقاطعتها. ولم يقف الأمر عند مصر أو حتى دول «الربيع العربي» وإنما امتدت السياسة القطرية فيما يبدو إلى داخل منطقة الخليج نفسها، وقد سبق للسلطات في دولة الإمارات أن اكتشفت تنظيماً لـ«الإخوان المسلمين» على أرضها، وأعقب قرار سحب السفراء قرار سعودي آخر في 7 مارس بإدراج جماعة «الإخوان المسلمين» وغيرها من المنظمات المتطرفة ضمن القائمة السعودية للجماعات الإرهابية، وصرح مصدر بحريني بأن هناك أعمالاً قطرية لزعزعة الاستقرار في السعودية تضمنت محاولات تهريب أسلحة‏ ومعدات عسكرية إلى الأراضي السعودية، وربط البعض بين اكتشاف سلطات دولة الإمارات تنظيماً إخوانياً وبين الدور القطري، وكذلك أكدت مصادر بحرينية أيضاً دعم قطر المعارضة البحرينية مادياً ومعنوياً. ولاشك أن مصر ليست بعيدة عن التطورات الأخيرة في منطقة الخليج، فقد كانت مصر أول من تصدى لحكم «الإخوان المسلمين» وإسقاطه، ولو كان قد استمر لتعرضت كافة الدول العربية لموجات من عدم الاستقرار قد تفضي إلى نظم حكم شمولية تتستر بالدين وتنقض على كل ما هو عربي لصالح تنظيمات بالغة التطرف تثبت قدرتها على هدم الأوطان والمجتمعات قبل أي شيء آخر. لا شك أن هذه التطورات الأخيرة ستكون لها تداعيات سلبية على مجلس التعاون لدول الخليج العربية بل على المنطقة العربية ككل، فلقد ظل مجلس التعاون الخليجي منذ نشأته في 1981 هو التجمع الفرعي الوحيد الذي صمد من التجمعات العربية وإن عانى من بعض الخلاف في الرؤى والبطء في الإنجاز، ولكن مؤسساته على الأقل ظلت تنعقد بانتظام، وبدا الاصطفاف الخليجي واضحاً في قضايا عديدة فيما سقط مجلس التعاون العربي الذى أنشئ في 1989 بين العراق ومصر والأردن واليمن بمجرد غزو العراق للكويت في 1990. وتجمد الاتحاد المغاربي منذ نهاية 1995 على خلفية النزاع المغربي- الجزائري حول الصحراء. وتفكك إعلان دمشق الذي أعلن في الشهر التالي لإتمام تحرير الكويت (مارس 1999) بسبب صعوبة الظروف العربية والإقليمية والعالمية التي أطاحت به، فصفي من مضمونه في يونيو من السنة نفسها. ثم تطورت السياسة القطرية على النحو السابق بيانه فطال التأزم المجلس الذي صمد لثلث قرن أمام عديد من التحديات الحقيقية. وستحاول دولة الكويت -اتساقاً مع دور الوساطة الذي عُرف عنها عربياً منذ الحرب الأهلية في شمال اليمن في ستينيات القرن الماضي- أن تتوسط في هذه الأزمة، غير أنني لا أتوقع لهذه الوساطة نجاحاً للأسف لأن شرط نجاحها الوحيد هو تراجع قطر عن سياستها الحالية، ولا أعتقد أن الضغوط الراهنة عليها داخلياً وعربياً كافية لحدوث هذا التراجع، وقد تتراكم هذه الضغوط لاحقاً فتحدث الأثر المطلوب. ومن ناحية أخرى فإن النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي لا يتضمن أدنى حديث عن فصل عضو أو تجميد عضويته، وهو على أي حال أمر غير مستحب لعل الظروف قد تتغير في يوم غير بعيد. أما قطر فثمة ما يشير إلى أنها ستلجأ إلى أسلوب «بيدي لا بيد عمرو» فتنأى عن اجتماعات المجلس أو تخفض تمثيلها فيه إلى أقصى حد بما يعني عدم اكتراثها بالإطار الخليجي لحركتها العربية، وثمة ما يشير إلى ذلك في سلوك قطر تجاه اجتماع مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري أول من أمس. وستكون القمة العربية القادمة خلال أيام أكثر إفصاحاً.