اتخذت إدارة أوباما موقفاً يذكِّر بأجواء الحرب الباردة إزاء الأزمة في أوكرانيا، حيث حذر البيت الأبيض روسيا من مغبة التدخل -وإنْ لم يهددها- وأمر الجيش الأميركي باتخاذ الإجراءات الاحتياطية اللازمة، ولكن ذلك ربما لم يكن ضرورياً على اعتبار أن الأوروبيين يسيطرون على الأمور على ما يبدو. وعلاوة على هذا، فقد شكلت الأحداث الميدانية ثاني محاولة في غضون عقد من الزمن لإدخال أوكرانيا إلى المعسكر الغربي وانتزاعها من روابطها التاريخية بروسيا، وهو بذلك مشروع استفزازي وخطير، من وجهة نظر روسية على الأقل. وكانت المحاولة الأميركية الأولى لإدخال أوكرانيا إلى «الناتو»، عقب الثورة البرتقالية (2004-2005) والاضطرابات التي تلتها، قد نقضت التعهدات والتطمينات التي قُدمت لميخائيل جورباتشوف عند سقوط جدار برلين، وكانت تمثل محاولة لفصل جزء من روسيا التاريخية، تربطه وشائج ثقافية ولغوية قوية ومستمرة بهذا البلد، ووضعه تحت القيادة العسكرية الأميركية، ولكن هذا أمر متهور وكارثي بالنسبة للعلاقات الأميركية- الروسية. والواقع أنه كان من الصعب منذ البداية قراءة السياسة الخارجية مثلما يتصورها أوباما. والسبب، في تقديري، هو أنه كان دائماً رجل الشؤون الداخلية الأميركية ورجل قانون -مهنته الأصلية. ففي ولايته الأولى ومعظم ما انقضى من ولايته الثانية، أحاط أوباما نفسه بمستشارين ليبراليين ومحافظين، بعضهم مناوئ للحرب وبعضهم من دعاة التدخل، بل إن التناقضات كانت موجودة حتى داخل المعسكرين، وكلها عوامل حالت دون تبني سياسة تتسم بالثبات والانسجام. فعقب انتصاره في 2008، كان أوباما يرغب في «إعادة ضبط» العلاقات الروسية- الأميركية، غير أنه تابع سياسات سلفه حيث استمر في تطوير درع مضاد للصواريخ يفترض أن يحمي روسيا إلى جانب الولايات المتحدة من هجوم نووي مستبعد جداً من قبل إيران، ولكنه يُسهل أيضاً توجيه ضربة أولى أميركية ضد روسيا -مثلما لفتت إلى ذلك موسكو. كما سمح الرئيس الأميركي أيضاً للمحافظين الجدد بالاستمرار في العمل لمحاولة فصل أوكرانيا عن روسيا وإلحاقها بحلف «الناتو». والحال أنه كان يجدر بأوباما أن يتخلص من المحافظين الجدد الذين ما زالوا موجودين في إدارته، مثل فيكتوريا نولاند -مساعدة وزير الخارجية لشؤون أوروبا وأوراسيا. ولكن بدلاً من ذلك بقيت نولاند، التي سُمعت وسط أزمة هذا الشهر وهي تُخبر السفير الأميركي في أوكرانيا، خلال مكالمة هاتفية شهيرة تم التنصت عليها، بتفاصيل ما كان انقلاباً مخططاً له على ما يبدو. والواقع أن شراكة جديدة لأوكرانيا مع الاتحاد الأوروبي (وهي علاقة أكثر تحفظاً من العضوية الصريحة) أمر أساسي. والأكيد أن التصرف الدبلوماسي الحالي للأوروبيين مسؤول عن الهدوء الحالي في أوكرانيا الهشة والقرارات البناءة التي اتُّخذت بخصوص الترتيب لانتخابات جديدة. غير أن جنوح أوباما إلى المزاوجة بين التهديد والسعي للتوافق كان واضحاً أيضاً في حالات سابقة. فمن بين التعيينات التي اتخذها كان هناك ليبراليون مثل مستشارة الأمن القومي سوزان رايس وسامنثا باور، السفيرة الأميركية إلى الأمم المتحدة، وهي مدافعة مشهورة عن التدخل العسكري للتعاطي مع الكوارث الإنسانية. وكلتاهما دعتا إلى قصف سوريا على ما يبدو في 2013، عندما اتُّهمت حكومة الأسد، باستعمال أسلحة كيماوية ضد الثوار، قبل أن يتدخل الرئيس الروسي بوتين لفرض حل سلمي. هذا ويضم مستشارو الرئيس الأميركي أيضاً في صفوفهم أشخاصاً يؤيدون حرب الطائرات بدون طيار ضد المقاتلين الإسلاميين المتطرفين، وهي وسيلة جديدة للحرب تعشقها الإدارة الحالية لأنها تقتل عن بُعد وبدون أي خطر على مشغِّلها، عدا الخطر الأخلاقي، وتُعتبر سلاحاً عالي التكنولوجيا لاقتناص الأشخاص إذ تقتل أهدافها بطلقة مجهولة. غير أنه إذا كان قناصة الجيش يقتلون أفراداً في حرب يُفترض فيها أن الموجودين على جانب العدو يمثلون أهدافاً مشروعة، فإن هوية هدف الطائرة بدون طيار والمرافقين له، الذين يدمَّرون معه، ليست من مسؤولية المشغٍّل. ففي كثير من الأحيان، يتبين أن الهدف هو أفراد عائلة نيام أو مجتمعون على مائدة الطعام، أو اجتماع عشيرة، أو حفل زفاف، وهناك تجارب مؤسفة تؤكد ذلك، فالطائرة بدون طيار تشبه عبوة ناسفة على جانب الطريق أو لغماً أو قنبلة، ومع ذلك، فقد أخذ الرئيس على عاتقه مسؤولية انتقاء الأهداف شخصياً. وقد دعم أوباما مطالب الجيش الأميركي في حالة الانسحاب من العراق والانسحاب المخطط له من أفغانستان للإبقاء على بعض الجنود القتاليين في البلاد بعد الانسحاب الرسمي للقوات الأميركية، حيث ستستمر هذه القوات في تدريب القوات المحلية، وتنفيذ المهمات «المضادة للإرهاب»، وفي حالة أفغانستان، خوض حرب الطائرات بدون طيار ضد «طالبان». ولكن هذا المقترح رُفض (حتى الآن في الحالة الأفغانية) بسبب عدم قبول كل من الزعيمين العراقي والأفغاني منح الجنود الذين يقومون بهذه المهام الحصانة من القانون الوطني، التي كانت ستحرم البلدان المستضيفة للقوات الأميركية من السيادة الكاملة من وجهة نظرهم. فأي نوع من الانسحاب هذا؟ وهذه الميول السلبية كانت واضحة أيضاً في إعلان أوباما عن «التركيز» الأميركي الجديد على آسيا، وهو عمل لا يمكن أن يفسَّر سوى باعتباره استفزازاً للصين، ولا معنى له اللهم إلا إذا كان يُعتقد في واشنطن أن الصين تعتزم مهاجمة جيرانها (ومنهم حليفان رسميان للولايات المتحدة: كوريا الجنوبية واليابان). وقد تكون الإدارة الحالية أدركت أن الزعماء الصينيين، لئن كانوا مسؤولين عن إثارة متاعب مع اليابان وجيرانهم الجنوبيين في البحر الأصفر وبحر جنوب الصين، إلا أنهم كانوا أيضاً سيفهمون دلالة تعزيز القوات الأميركية في غرب المحيط الهادي -بدون إهانة. فالصينيون معروفون بأنهم شعب ذكي ويفهم الأمور، وما تحت السطور. ---------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»