اندلعت الأزمة الأوكرانية عندما تدفق عشرات الآلاف من الأوكرانيين إلى الشوارع احتجاجاً على سياسة الرئيس يانوكوفيتش، والتي انتهت بإخراجه من السلطة وفراره من العاصمة كييف. لكن الأزمة التي كانت في بدايتها داخلية، اكتست أبعاداً دولية بعد انخراط الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا، وبعد أن أرسلت روسيا قواتها عبر الحدود إلى داخل أوكرانيا ضد رغبة الحكومة الجديدة في كييف. وأمام هذه التطورات المتسارعة بدأ البعض يتحدث عن حرب باردة جديدة ترتسم في الأفق، لاسيما أن واشنطن لم تتردد في وصف اقتحام القوات الروسية للأراضي الأوكرانية بـ«الاعتداء الصارخ وانتهاك روسيا لالتزاماتها الدولية»، وطالب أوباما روسيا بسحب قواتها من أوكرانيا وعدم تصعيد الموقف، ملوحاً بأنه في حالة الرفض «ستكون هناك تداعيات وعواقب وخيمة». فكيف وصلت الأمور إلى هذا المستوى المفتوح على كافة احتمالات التصعيد في المنطقة؟ الحقيقة أن كل من يراقب السياسة الروسية عن كثب، يقول إن الانتفاضة الأوكرانية التي أطاحت بيانوكوفيتش أخذت بوتين على حين غرة، ما دفعه لاتخاذ خطوات استثنائية تنم عن مدى انزعاجه، تلك الخطوات التي ترجمت على أرض الواقع بإرسال قواته عبر الحدود الدولية إلى شبه جزيرة القرم. وفي الخلفية يبدو أن بوتين، وحسب العديد من التقديرات، لم يتصالح قط مع فكرة انهيار الاتحاد السوفييتي، بل ما زال يتطلع إلى إعادة بناء روسيا كقوة عالمية واستعادة مكانتها الضائعة، فعندما تداعى المعسكر الشرقي في عام 1991 وسقط الاتحاد السوفييتي، خسرت موسكو سيطرتها المباشرة على أوكرانيا التي كانت جزءاً من الإمبراطورية السوفييتية. وبالإضافة إلى أوكرانيا التي صارت دولة مستقلة وذات سيادة، فقدت موسكو أيضاً عشرة بلدان في شرق أوروبا ظلت لأربعين سنة خاضعة لهيمنة الاتحاد السوفييتي، من عام 1945 تاريخ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1991 تاريخ الانهيار. وما فاقم من الشعور بالمرارة لدى بوتين وعمّق لديه الإحساس بالخسارة، أن هذه البلدان الواقعة إلى الغرب من روسيا والتي كانت تدور في الفلك السوفييتي حتى وقت قريب، انضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو المنظمة العسكرية التي أنشأها الغرب لتطويق الخطر الشيوعي والتصدي للتطلعات الروسية في أوروبا. ولم تقتصر خسارة روسيا على جوارها الأوروبي، بل امتدت أيضاً إلى مناطق أخرى من العالم، فعلى مدى السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، تمتع قادة الكرملين بنفوذ واسع وقوي في بلدان عدة مثل مصر وسوريا وجنوب اليمين. لكن هذا النفوذ تراجع اليوم واختفى تقريباً من الشرق الأوسط، باستثناء سوريا التي تواصل روسيا إمداد نظامها السياسي المحاصر بالسلاح والدعم السياسي. ولم يخفِ بوتين يوماً أسفه على اضمحلال الدور الروسي بعد تداعي الاتحاد السوفييتي، معتبراً سقوطه خطأ استراتيجياً، وعبّر مراراً عن أساه على ابتعاد بلدان أوروبا الشرقية التي كانت خاضعة للسيطرة السوفييتية واقترابها من الغرب، وهو لأجل ذلك يسعى إلى التمسك بموطئ قدم له في الشرق الأوسط من خلال دعمه لسوريا، ويبقى الهم الأكبر لبوتين عدم تدهور العلاقات مع أوروبا الشرقية، فرغم خروجها من دائرة الهيمنة الروسية، لا يريد بوتين خسارتها نهائياً، فعندما انتفضت جورجيا ضد التدخل الروسي، سارع بوتين إلى إرسال قواته واستعادة السيطرة على أوسيتيا الجنوبية، واليوم يجد نفسه أمام انتفاضة أخرى في أوكرانيا، مع احتمال خروج الأمور عن السيطرة، لذلك تدخل مجدداً في القرم علَّه يسيطر على مجريات الأحداث. وبالنسبة لبوتين تظل أوكرانيا وجورجيا خطاً أحمر يخشى من أن يتمدد إليهما «الناتو»، وهو ما يفسر إلى حد بعيد تدخله العسكري في كلا البلدين، فقد اعتقد بأن يانوكوفيتش دخل العباءة الروسية، لكنه بعدما شرع في التقرب من الاتحاد الأوروبي تحركت موسكو بقوة مخافة أن يتطور الأمر إلى استقلال فعلي لأوكرانيا عن الهيمنة الروسية، وربما أيضاً الانضمام في مرحلة لاحقة إلى «الناتو»، لذا منح بوتين الحكومة الأوكرانية مساعدة بـ15 مليار دولار على ألا تتقارب مع أوروبا، ما تسبب في غضب شعبي عارم. وعندما اكتشف الشعب الأوكراني مدى فساد الحكومة صمم على إحداث التغيير. وعندما بدأ بوتين يستشعر انهيار محاولات تحسين العلاقة مع أوكرانيا قرر التحرك السريع والفعال، فكان التحرك عبارة عن اقتحام شبه جزيرة القرم لأنها الخطوة الأسهل للتبرير. فروسيا تربطها اتفاقات ثنائية مع أوكرانيا تسمح لها بتمركز أسطولها البحري في ميناء سافستوبول، وهي النقطة الأولى التي دخلتها القوات الروسية بدعوى تأمينها، ثم كانت الخطوة اللاحقة خروج المتحدثين باللغة الروسية إلى الشوارع دعماً لموسكو وللمطالبة بحقوقهم كأقلية، فسارع الكرملين إلى دعمهم، وهي خطة تقليدية تنتهجها الجيوش الغازية التي تبرر اجتياحها لأراضي الغير بحماية الأقليات. وفيما يتعلق بموقف الولايات المتحدة من الأزمة، فهي تساند استقلال أوكرانيا من حيث المبدأ، وتدعو إلى احترام القانون الدولي، لكن أوباما يريد تسوية دبلوماسية للمأزق، وهو بالقطع لن يرسل قوات أميركية إلى القرم لطرد الجنود الروس، فأميركا تعول على روسيا للمساعدة في حل المسألة السورية وتسهيل التفاوض مع إيران، وليس من الضروري أن تتطور الأزمة إلى العنف إذا ما تحلت الأطراف المعنية بالتعقل، فبوتين يدرك جيداً أنه لا مجال لتدخل عسكري ضده، إلا أنه يعرف أيضاً أن الجيش الأوكراني قادر على مواجهة حقيقية، خلافاً لجورجيا. وحتى هذه اللحظة أبدت الحكومة الجديدة في كييف قدراً كبيراً من ضبط النفس وعدم التسرع، لكن ما زال عليها تطمين الأقلية الروسية في البلاد وإبداء الاستعداد للتحدث إلى موسكو. وفي هذه الأثناء تسعى البلدان الغربية للضغط على بوتين من خلال تنسيق المواقف والإصرار على سحب روسيا لقواتها. ومن أدوات الضغط الغربية مقاطعة قمة دول مجموعة الثماني في سوتشي، مع التلويح بطرد روسيا من المجموعة. وإلى ذلك قد يلجأ الغرب إلى فرض عقوبات على روسا للضغط على بوتين وعزله دولياً لتتراجع مكانة موسكو بعدما سعت جاهدة لتكريسها خلال الألعاب الأولمبية في سوتشي التي جربت قبل أسابيع قليلة، ومع أن هذه الإجراءات قد لا تلاقي النجاح المنشود وقد تتصاعد حدة التوتر، إلا أنها مع ذلك تستحق التجريب.